خصوصيات وجود وظروف العرب في أمريكا

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحتفل الأمريكيون من ذوي الأصول العربية، في شهر أبريل من كل عام، بسلسلة من الأنشطة التي تُعرّف بتراثهم الثقافي، وبحيث يكون ذلك من جهة فرصة لتأكيد اعتزازهم بالانتماء الثقافي لأوطانهم العربية الأصلية التي هاجروا منها، ومن جهة أخرى تكون هذه الأنشطة والندوات وسيلة تخاطب مع المجتمع الأمريكي لتحسين الصورة المشوّهة عن العرب والمسلمين، وللتعريف الصحيح بالعرب وثقافتهم.

لكن هناك خصوصية تتصف بها الجالية العربية في أمريكا: فأفراد الجالية الذين هم أبناء ثقافة واحدة، هم أيضاً ينتمون أصلاً إلى دول وأوطان عربية متعددة، ويعيشون في أمريكا التي هي وطن وبلد واحد، لكن يقوم على أصول ثقافية متعددة!

ولهذه الخصوصية انعكاسات مهمة جداً على واقع ودور العرب في أمريكا. فهم بنظر المجتمع الأمريكي «جالية واحدة»، بينما واقع الأمر أنهم يتوزعون على «جاليات» عربية.

وتنشط غالبية الجمعيات من خلال تسميات خاصة بالأوطان، بل بعضها يحصر انتماءه في أطر مناطقية من داخل البلدان العربية. وقد أدت هذه الخصوصية إلى كثير من المعضلات في دور العرب على الساحة الأمريكية.

فالتسمية النظرية: جالية عربية، بينما الواقع العملي في معظمه هو تعدد وانقسام على حسب الخصوصيات الوطنية أو المناطقية أو الطائفية أحياناً، إضافة طبعاً للصراعات السياسية التي تظهر بين الحين والآخر.

ورغم مضي أكثر من قرن على بدء الهجرة العربية لأمريكا، فإن واقع العرب هناك استمر كمرآة تعكس حال العرب في بلادهم الأصلية.

ولم يستفد العرب في أمريكا بشكل عميق من طبيعة التجربة الأمريكية التي قامت وتقوم على الجمع بين تعدد الأصول الثقافية والعرقية، وبين تكامل الأرض والولايات في إطار نسيج دستوري ديمقراطي حافظ على وحدة «الأمة» الأمريكية - المصطنعة أصلاً - وبناء دولة هي الأقوى في عالم اليوم.

ولعل «النموذج الأمريكي» في كيفية فهم «الهوية الأمريكية» واستيعاب هذه الهوية لتنوع ثقافي وإثني وديني هو ما تحتاجه البلاد العربية في تعاملها مع مسألة الهوية العربية.

وفي ظل هذه «البيئة العربية الانقسامية» السائدة بين العرب في أمريكا، بدأت وتستمر تجربة «مركز الحوار العربي» في واشنطن منذ العام 1994، من خلال أنشطة متعددة وحوارات دورية أسبوعية لتشجيع العرب على أسلوب الحوار فيما بينهم بغض النظر عن اختلافاتهم الفكرية والسياسية، وعن خصوصياتهم الوطنية والدينية والإثنية.

فالعرب يشتركون في ثقافة عربية واحدة لا تقوم على أصل عنصري أو إثني، ولا يختصّ بها أبناء دين دون آخر.. ثقافة عربية هي الآن الرمز الوحيد الباقي فاعلاً للتعبير عن انتماء العرب إلى أمّةٍ واحدة!

إن الساحة الأمريكية مفتوحة لأبناء «السوء» لبثِّ سمومهم وأحقادهم على الإسلام والعرب، لكن أيضاً هي ساحة مفتوحة (ولو بظروفٍ صعبة) على «دعاة الخير» من العرب والمسلمين لكي يصحّحوا الصورة المشوَّهة عنهم وعن أصولهم الوطنية والحضارية.

وكما هناك العديد من الحاقدين في الغرب وأمريكا على العرب والمسلمين، هناك أيضاً الكثيرون من أبناء أمريكا والغرب الذين يريدون معرفة الإسلام والقضايا العربية من مصادر إسلامية وعربية، بعدما لمسوا حجم التضليل الذي كانوا يعيشونه لعقود.

وإذا كان الغرب تحكمه الآن حالة «الجهلوقراطية» عن الإسلام والعرب والقضايا العربية، فإنَّها فرصة مهمَّة (بل هي واجب) على العرب والمسلمين في الغرب أن يتعاملوا مع هذه الحالة (بأسلوب الحوار الهادئ والمقنع) لاستبدال «الجهلوقراطية» الغربية بالمعرفة الفكرية السليمة عن الإسلام والعرب.

لكن «فاقد الشيء لا يعطيه»، لذلك هي أولوية موازية لأولوية التعامل المعرفي مع «الآخر»، بأن يعمل العرب والمسلمون في أمريكا والغرب على تعميق معرفتهم بأصولهم الحضارية والثقافية وبالفرز بين ما هو «أصيل» وما هو «دخيل» على الإسلام والثقافة العربية.

كذلك، فمن المهمّ التشجيع على أسلوب الحوار الدائم بين المؤسّسات والهيئات العربية والإسلامية في أمريكا والغرب، وبين غيرها من المؤسّسات في هذه المجتمعات، إضافةً إلى الحوار المباشر عبر وسائل الإعلام والإنترنت وباللقاءات الخاصَّة.

هي مهمَّة مزدوجة الآن أمام العرب والمسلمين: تحسين وإصلاح «الجسم» (الواقع) بشكلٍ متزامنٍ مع تحسين وإصلاح «الصورة»، وبناء الذات السليمة مع بناء المعرفة السليمة لدى النفس ولدى الآخر.

وعلى الرغم مما تحقق للجالية العربية في أمريكا من إنجازات في العقود القليلة الماضية وظهور العديد من المنظمات النشطة التي جعلت للعرب الأمريكيين صوتاً سياسياً يُسمَع، وبعضهم أصبح عضواً في الكونغرس، فإن مشكلة المؤسسات العربية/‏ الأمريكية أنها تتعامل مع علاقات رسمية عربية - أمريكية متشعبة ومختلفة لأكثر من عشرين دولة عربية.

وإذا اجتمعت جهود العرب/‏ الأمريكيين مع جهود المسلمين/‏ الأمريكيين (وأكثريتهم من غير الأصول العربية) الآخذة في التنامي، فقد يشكلان معاً قوة تأثير إيجابية هامة، خاصة مع ازدياد التيار العنصري الأبيض المعادي لكل المهاجرين الجدد.

من ناحية أخرى، فإن لدى العرب الأمريكيين أزمة تحديد الهوية ومشكلة ضعف التجربة السياسية.‏ فلقد جاء العرب من أوطان متعددة ومن بلاد ما زالت فيها الممارسة الديمقراطية محدودة. إضافة إلى آثار الصراعات المحلية في عدة بلدان عربية على مسألة الهوية العربية المشتركة.

إضافة لذلك، علينا أن نميز بين «الأمريكيين من أصول عربية»، وهم أبناء الجيل المهاجر الأول الذين اندمجوا كلياً في المجتمع،‏ وبين «العرب الأمريكيين» وهم أبناء الأجيال التالية التي لم تذب تماماً، ولكنها مندمجة بقوة في الحياة الأمريكية،‏ وهناك أيضاً «عرب في الولايات المتحدة» وهؤلاء هم المهاجرون الجدد الذين لم يصبحوا بعد من المواطنين الأمريكيين، حيث ما زالت أولوياتهم تتمحور حول أوضاعهم المعيشية والقانونية، ويصرفون وقتهم في مسائل تثبيت الوجود وليس البحث عن دور فعال في المجتمع الجديد.‏

وبينما نجد أغلب الفئة الأولى أي «الأمريكيين من أصل عربي» بدون تواصل مع البلاد الأم، نرى أن‏ الفئة الأخيرة (أي المهاجرين الجدد) غير مندمجة أو متفاعلة مع المجتمع الأمريكي،‏ ولكل من هذه الفئات طبيعة علاقة مختلفة مع المجتمع والمؤسسات العربية فيه‏.

أضف إلى ذلك أيضاً، تعدد الانتماءات الدينية والطائفية في الجالية العربية‏.‏ البعض مثلاً يندفع نحو منظمات دينية وهو ما يستبعد النصف الآخر من الجالية العربية. وبعض الجالية يتقوقع مذهبياً وعائلياً، سواء بسبب منطلقات خاصة به، أو انعكاساً لما يحدث في المنطقة العربية‏.‏

فالجالية العربية والجالية الإسلامية تنتميان إلى أصول وطنية ودينية متنوعة، إذ إنَّ حوالي نصف تعداد الجالية العربية هم من أتباع الديانة المسيحية، وينتمون بمعظمهم لأصول وطنية من بلدان لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر والأردن، بينما أكثر من نصف عدد الجالية الإسلامية (حوالي 8 ملايين) ينتمون في أصول أوطانهم إلى بلدان غير عربية (من بلدان آسيا وأفريقيا غير العربية) إضافةً إلى عددٍ من الأمريكيين الذين اختاروا الإسلام ديناً لهم ومعظمهم من الأمريكيين الأفارقة.

إذاً، بمقدار ما يكون هناك تعاون وتنسيق بين أبناء الجاليتين العربية والإسلامية، وبمقدار ما يكون هناك طرح لفكر عربي سليم فيما يتعلق بمسألة الهوية الثقافية ومضمونها الحضاري، تستطيع الجالية العربية أن تنجح عملياً وتتجاوز الكثير من الثغرات والعقبات‏.‏

 

 

Email