خلوة الخمسين.. النهج والأفق

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخلوة الوزارية نهج إداري مبتكر وبصمة إماراتية خاصة أصبحت تقليداً عميق الفعالية في حياتنا السياسية منذ أن تولى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء،حاكم دبي، رعاه الله، مهام عمله رئيساً لمجلس الوزراء عام 2006، وهو نهج غير مسبوق في إدارة الدول، يقوم في جوهره على طرح المبادرات الاستراتيجية التي تستشرف المستقبل وتراهن على امتلاكه ضمن خطة واضحة المعالم، ورؤية استراتيجية وعزيمة صادقة هي المحرك الروحي والأخلاقي لكل نتاجات التفكير العقلي، وهو ما عبرعنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حين قال:

«المستقبل ملكٌ لمن يتخيله ويصممه وينفذه»، ليجتمع من هذه الثلاثية المدهشة: «الحلم، والتصميم، والتنفيذ» جوهر الرؤية لدى هذه القيادة التي ترفض الانفراد بصناعة تاريخ الوطن، وتصر على إشراك جميع القوى المجتمعية والفعاليات الوطنية في رسم ملامح المرحلة القادمة مهما كانت بعيدة المدى.

فالتخطيط لمرحلة ممتدة لـ 50 عاماً ليس بالأمر السهل لا سيما ضمن إيقاع التغيرات السريع إلى حد الإدهاش الذي يشهده عالمنا المعاصر، مما يكشف عن شجاعة قيادية وبصيرة نافذة وعزيمة لا تلين في التخطيط، وامتلاك زمام المبادرة، وعدم الرضوخ لمنطق الكسل وانتظار الفرص التي قد لا تجيء.

وربما تبادر إلى الذهن أن الخلوة رديف لجلسات العصف الذهني الذي لا يتجاوز في أحايين كثيرةٍ حدود الرؤية النظرية للأشياء، وربما اكتفى بالإشارة إلى ما يريد، لكن هذا الخاطر غير صحيح على التحقيق، فالخلوة هي في جوهرها مبادرات عملية تتسم بطابع التنفيذ ويهيمن عليها روح التنافس وإذكاء العزيمة للإنجاز، وهو ما عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد حين قال في «خلوة الخمسين»: «لا بدّ نشدّ الهمم»، ليؤكد بعد ذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، على روح التنافس حين قال وبنبرة جازمة:

«نحن في سباق إلى يوم الدين مع العالم كلّه» لينفتح الأفق على مدى متراحب من العمل والإنجاز لا يسمح بتسرّب أدنى طيف من الكسل والتواني والتراخي، فالدولة في هذه الخلوة بصدد إحداث قفزات حضارية تترك بصمتها وأثرها على الحياة للسنوات الـ 50 القادمة وليست بصدد وضع خطة خمسية قريبة الأفق، هيّنة المنال، فالتخطيط لـ 50 عاماً قادمة هو في جوهره دخول في قلب المغامرة، ولكنّ كثيراً من المشاريع الكبرى والإنجازات الحضارية العظمى كانت في بداياتها لا تتجاوز كونها مغامرة قد تجلب أخطر النتائج والعواقب.

إن الخلوة الوزارية ليست تزجيةً للوقت أو استعراضاً للإمكانات بل هي حفر عميق في أرض صلبة تحتاج إلى إرادة نادرة وعزيمة صادقة لكي تحقق الأهداف والغايات ضمن المنظور الزمني المقترح، فإنّ فلسفة الإنجاز تقوم في جوهرها على مفهوم الزمن، فالعبقرية الإدارية هي التي تنجز المطلوب في الزمن المناسب بل في أقل قدرٍ متاح منه، وإلا فإن الزمن المفتوح هو دائماً في جانب الكسالى.

فربما يمكث المتراخي في المشروع الذي يحتاج عاماً واحداً، ربما يمكث فيه 5 أعوام غافلاً عن الهدر الذي لا يحتمل للوقت الذي هو الحياة، ومن هنا فإن الخلوات النشيطة تعيد القيمة لمفهوم الزمن من خلال الربط الذكي بين المنجز والوقت، مع انخراط كامل للروح الوطنية في تحقيق الأهداف فهي ليست وليدة الأفكار النخبوية بل هي ثمرة التفكير المشترك بين جميع القوى الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية لكي تكون الرؤية شاملة ومستوعبة لجميع ألوان الطيف الوطني الجميل.

والخلوة الوزارية قبل ذلك وبعده هي في حقيقتها خارطة طريق يتمّ رسم ملامحها بدقة فائقة، ولا تسمح إلا بأدنى الهوامش لوقوع الخطأ، من خلال امتلاك واثق لأدوات التخطيط، والرؤية الواضحة، وآليات التنفيذ المناسبة وذلك بهدف تسريع وتيرة التنمية.

وبلوغ القمة بأقصى طاقات الإنجاز، والإسهام الفاعل في صنع المستقبل الذي يضمن البقاء في مسار التقدم والنماء، فإنّ كثيراً من الدول يتاح لها بعض الفرص لتحقيق المكاسب لكنها لا تستثمرها، فتضيع أدراج الرياح، وتندم حين لا ينفع الندم.

الوطن بخير ما دام هناك رجال يفكرون هذا النمط الاستباقي من التفكير، وقلوب أبناء الوطن مع هذه القيادة الملهمة التي تصنع المستحيل في سبيل أن تظل الإمارات في المكان الذي تستحقه بين الأمم والشعوب، وخلوة الـ 50 في هذا الظرف العصيب الذي تمر به الإنسانية عامةً هي خير تعبير عن الإرادة الحرة للقيادة، وشجاعة الإنسان الإماراتي الذي لا يستسلم لمنطق الظروف وغواية الصعوبات، بل يركب متن الجرأة، ويواجه رياح التغيير ببسالة تمنحه مزيداً من القوة والصلابة والقدرة على الإبداع والابتكار.
 

Email