كشفت الأحداث الأخيرة في الكونغرس الأمريكي عن شرخ بليغ في النظام السياسي. وقد أعلن الرئيس جو بايدن، عقب محاكمة الرئيس السابق دونالد ترامب في مجلس الشيوخ للمرة الثانية، أن الأحداث الأخيرة كشفت عن هشاشة الديمقراطية وأنها بحاجة إلى عناية فائقة.

المؤسسات السياسية الأمريكية كانت محطة إعجاب العالم وفخراً للأمريكيين، ولكن بعد أحداث يناير أصابها عطب كبير. الرئيس يرفض قبول نتائج الانتخابات ويحرّض أنصاره للاعتداء على أهم المؤسسات الديمقراطية الأمريكية وبيت الشعب، لمنعه من التصديق على نتائج الانتخابات الأخيرة.

أطلق البعض على أحداث الشغب، التي صاحبت العملية الانتخابية الرئاسية، أول محاولة انقلاب في تاريخ أمريكا. ووصفت أستاذة العلوم السياسية الأمريكية في جامعة هارفرد، بيبا نوريس، محاولة تعطيل المصادقة بأنها تقهقر الديمقراطية. ولكن هل نستطيع القول إنها مجرد انحراف من قبل شخص فقد التميّز بين الخطأ والصواب. ويبدو أن الموضوع أكبر من ذلك. فقبل الأحداث صنّفت الديمقراطية الأمريكية كديمقراطية معيوبة من قبل تراتيب الديمقراطية التي تصدرها «إيكونوميست انتليجنس يونيت».

وقد تكشفت أمور كثيرة من أحداث يناير لجهة الخلل في بنية المؤسسات في المجتمعات الحديثة، فقوة المجتمعات تتجلى في متانة مؤسساتها الوطنية، ومتانة المؤسسات هي الضامن لسلامة المجتمعات، خصوصاً في الأزمات. ولكن المؤسسات تضعف وتصاب بالوهن، وليس أدل على ذلك من مواجهة أزمة وباء «كورونا»، والتي أعجزت المؤسسات الصحية من مواكبة الأعداد المتزايدة من المصابين، وتقديم العناية الصحية لهم.

السياق التاريخي مهم لكل مجتمع، فيما يخص تطوّر المؤسسات الوطنية. يقول أستاذ العلوم السياسية الشهير صامويل هنتغتون، في كتاب عنوانه «السياسة الأمريكية ووعيد التنافر»: إن المجتمع الأمريكي مؤسس على قيم الفردانية، والحرية، والمبادئ الدستورية، والديمقراطية، وإن هذه القيم في معارضة مباشرة لهذه المثاليات، وينشأ من هذا التقابل ما يسميه هنتغتون فجوة المثل مقابل المؤسسات، والذي بدوره يطلق «شغفاً عقائدياً» ضد مؤسسات السلطة لتصحيح مسار الدولة.

ويرى هنتغتون أن التاريخ الأمريكي عبارة عن سلسلة من هذا الشغف العقائدي تظهر في كل ستين سنة من عمر الجمهورية، الأولى حدثت مع الثورة الأمريكية في العام 1776 والتي أدت إلى استقلال البلاد من الاستعمار البريطاني، والثانية، حصلت في العام 1830، حينما قاد الرئيس أندرو جاكسون لكسر السطوة الاقتصادية للمصرف الثاني للولايات المتحدة، أما الثالثة.

فكانت فيما عرف بالعصر التقدمي والذي امتد ثلاثة عقود من 1890 إلى 1920، وقد قاد الحملة الرئيس تيودور روزفلت لتحجيم قوة النخب السياسية وإعادة الديمقراطية المباشرة، والرابعة، كانت في الستينات من القرن المنصرم، حين طالب الأمريكيون بالحقوق المدنية وإنهاء الحرب الأمريكية في فيتنام. وقد تنبأ هنتغتون أن المرة المقبلة ستكون في النصف الثاني من القرن الحادي وعشرين، وهذا ما حصل في 2020.

وفكرة انحدار الولايات المتحدة ومؤسساتها، أتت من تلميذ هنتغتون فرانسيس فوكوياما. ويقول في مقالته في الـ«فورين آفيرز» الشهيرة، إن المؤسسات تخلق لظروف محددة، ولكن الظروف تتغير، وإذا المؤسسات لم تواكب هذه التغيّرات فإنها تفشل. استدامة المؤسسات، إذن، مرتبطة بالقدرة على التواؤم مع المعطيات المستجدة.

وكما أنه من المهم أن تحقق المؤسسات درجة من الاستقلالية من المصالح المجتمعية الضيقة لقيامها بالمهمات المنوطة بها دون تأثير خارجي. ويقول فوكوياما إن المؤسسات، مع الزمن، تخلق طبقة لها مصلحة في الوضع القائم، وتقاوم الإصلاح والتغيير. أضف إلى ذلك، جماعات الضغط ذات المصالح الخاصة، والتي تثقل كاهل المؤسسات الأمريكية، و«اللوبيات» القوية التي توجّه دفة الحكم حيث مصالحها، ولك مثال على «لوبي» حمل السلاح والذي يجهض محاولات إصلاح قضايا حمل السلاح، رغم المآسي المتكررة من الهجوم على جموع الناس، من قبل أشخاص يعانون من لوثة عقلية.

وأخيراً، فإن الولايات المتحدة تعاني من فوارق في الدخل أكبر من كل الدول المتقدمة اقتصادياً. وتفيد دراسة لمركز بيو للبحوث بأن في 2018 حصل 20% من ذوي الدخول العالية على 52% من مجموع الدخل الوطني، والفارق بين دخول المواطنين السود يصل إلى 61% من متوسط دخل البيض في العام ذاته.

كما نرى فإن جذور المشاكل التي تعانيها الولايات المتحدة لا تتعلق بشخص أو حزب، بل إن أسس المشاكل بنيوية تتعلق بالمؤسسات وذبولها، والتباينات العنصرية، والتفاوتات الاقتصادية، وما لم تتم معالجة هذه الأمور، فإن الشرخ سيتعمق ويتّسع الخرق على الراقع.