المتوجسون من الحقيقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان من عادة الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، أن يلتقي بعدد من الكتاب والمثقفين والصحفيين في حفل الافتتاح السنوي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، في يناير من كل عام.

وفي أحد المعارض بعد نحو ثلاث سنوات من الغزو الأمريكي للعراق، ورداً على أسئلة المشاركين، روى الرئيس مبارك أنه اتصل بالرئيس العراقي صدام حسين في مطلع عام 2003، وقبيل أشهر قليلة من الغزو، وقال له، طالما أن العراق لا يمتلك أسلحة نووية، فلماذا لا تسمح للمفتشين الدوليين بدخول القصور الرئاسية ليتأكدوا بأنفسهم أن لا سلاح نووياً لديكم.

وكان رد الرئيس العراقي أن السماح بذلك يشكل اعتداءً على السيادة الوطنية. فقال له الرئيس المصري، بل إن الحرب على العراق هي العدوان الحقيقي على السيادة الوطنية، فانزع عمن يعدون لها ذرائعهم، فكان رد صدام الحاسم، نحن لها!

وكان عدد من المثقفين المصريين والعرب قد تشاركوا في تلك الأثناء في إصدار بيان، طالبوا فيه القيادة العراقية بأن تسلم السلطة لجناح آخر أكثر اعتدالاً في حزب البعث، تجنباً للحرب، أو على الأقل لحشد تعاطف دولي لمنع نشوبها، اتهم كل من وقع عليه وروج لفكرته بالعمالة للولايات المتحدة الأمريكية!

تذكرت تلك الواقعتين، وأنا أتابع باندهاش ردود الفعل الغاضبة، من مصريين وعراقيين على صدور الجزء الثاني، مؤخراً، من مذكرات «عمرو موسى» عن دار الشروق في القاهرة تحت عنوان «سنوات الجامعة العربية».

سبب الدهشة أن مبعث الغضب، ليس الوقائع التاريخية المهمة التي يقدمها المؤلف كشاهد عليها ومشارك فيها، من موقعه كأمين عام للجامعة العربية لنحو عقد مأساوي كامل من تاريخ المنطقة، يبدأ من سنة 2001 وحتى سنة 2011، بل لبعض التفاصيل الجزئية والهامشية التي صاحبت بعض الوقائع.

وبفرض صحة تلك التفاصيل، فهي لا تغير من حدوث الواقعة، الذي ينطوي الكتاب على أسماء شهود ووثائق للتدليل على صحة حدوثها.

وليس مهماً بعد ذلك أن يكون عمرو موسى عند مقابلته لصدام حسين، لدعوته لإعادة المفتشين الدوليين إلى العراق، قد كلمه بلهجة غاضبة - وهي موضع غضب الساخطين، إذ لا يجرؤ أحد برأيهم، أن يكلم صدام حسين بتلك الطريقة - أم بلهجة هادئة - المهم أن الأمين العام للجامعة العربية قد قام بدوره المنوط به، من تحذير القيادة العراقية من مخاطر محدقة، بسبب سوء تقديرها للظروف الدولية والإقليمية والعربية المتغيرة المحيطة ببلدها. وأثبتت التطورات التي أعقبت كارثة غزو العراق واحتلاله، والتي تمتد آثارها إلى اليوم، صحة موقف الجامعة العربية ومبارك من التشدد في التحذير والغضب.

لقد ابتعدنا عن تاريخ الغزو الأمريكي للعراق نحو 18 عاماً، وكان الظن أن يمنحنا ذلك القدرة للتوقف لتقيمه بشكل موضوعي لا انفعال فيه، ويتيح لمن يهمه الأمر، الفرصة للتعلم من دروسه، التي كان من أهمها، التصور الواهم بالفوز في أية مفاضلة بين نظام صدام حسين وبين الغزو الأمريكي!

يعكس هذا اللون من التفكير الغاضب، أن أحداً لا يريد أن يتعلم من تجارب الماضي القريب المؤلمة. ألم تتكسر تحت نصال الغزو العراقي للكويت، الفكرة المحورية التي لازمت صعود التيار القومي العربي، وتمت صياغتها في الشعار البعثي الشهير «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»؟.

وكانت القاعدة التي استند إليها ذلك الشعار، أن ما يجمع بين دول المنطقة لغة واحدة وتاريخ مشترك من التصدي للاستعمار، والمكابدة من التشظي القطري، وأن الوحدة هي السبيل للدفاع عن مصالحها.

لم تفشل فقط كل صيغ الوحدة الاندماجية، بل صرنا أقطاراً متناثرة. بات الكل يتعارك مع الكل، والبعث العراقي مع البعث السوري، بعد معاركه الدؤوبة للتنافس على وراثة دور جمال عبد الناصر القومي حياً وميتاً. لم تسفر تلك المعارك سوى عن تبديد ثروات العراق النفطية الطائلة، مرة في حرب مع إيران، وأخرى على شراء النفوذ، باصطناع منظمات وأحزاب عربية.

وضمان ولاءات صحف وكتاب ومثقفين وبرلمانيين وفنانين، وسياسات دول. وكان من نتائج دعم هؤلاء للقيادة العراقية أثناء غزو الكويت، تكريس للمصالح القُطرية، وضع المسمار الأخير في نعش الفكرة القومية، والإطاحة بمركزية القضية الفلسطينية!

مشكلة هذا النوع من الغضب أنه يريد إعادة التاريخ العربي خطوة للوراء بإغماض العين عن حقيقته، بدلاً من التقدم به خطوات إلى الأمام، بالاستفادة من هزائمه كي نحول دون تكرارها، وبحفز كل مسؤول عربي على أن يدون مذكراته لما شهده من ذلك التاريخ، بدلاً من إضفاء الشرعية على الاستبداد والدفاع عنه!

* رئيسة تحرير جريدة «الأهالي» المصرية

Email