نجحت العملية.. ومات المريض!

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان العنوان الساخر أعلاه، هو التعليق الذي ورد إلى ذهني، وأحد المذيعين في الفضائيات الأجنبية، يقول بثقة، وهو يبدي دهشته من غياب الاحتفالات بحلول الذكرى العاشرة لثورة الياسمين: إن الديمقراطية التونسية باتت محل حسد كثيرين في المنطقة العربية. التعليق هو جزء من رؤية سائدة في الغرب الأوروبي والأمريكي، لدى قوى المصالح، تصر على إدماج جماعة «الإخوان» في السلطات الحاكمة في دول المنطقة، حتى لو أدى ذلك إلى انفجار الدول التي سادها ما سمي بـ «الربيع العربي»، أو ربما بالأحرى لأجل ذلك، وتحولها إلى حروب أهلية، تهدد بتقسيمها وتغيير واقعها الجغرافي والسكاني.

وفي هذا السياق، قامت جماعة «الإخوان» وأنصارها من جماعات الإسلام السياسي، الخارجة من رحمها، بالدور الرئيس لأجل الوصول إلى السلطة في تلك البلدان، بأي ثمن، وهو ما فعلته حماس «الإخوانية» في غزة، والتي تتعمد إفشال كل جهود المصالحة الفلسطينية، منذ 14 عاماً من انقلابها، وتتشدق بالكفاح المسلح، وهي تعقد اتفاقات هدنة مع إسرائيل، وتبحث خارج الانقسام الفلسطيني، عن شماعة، تعلق عليها أسباب تهميش القضية الفلسطينية على المستوى الدولي، وتراجع محوريتها في العالم العربي. والدمار الذي لحق بكل من اليمن وليبيا وسوريا، كانت جماعة «الإخوان» وأنصارها، هم رأس الحربة وراء نشره وتعميمه. وبينما نجحت مصر، بفعل الوعي الشعبي، ووطنية وقوة المؤسسة العسكرية، في أن تتجنب مصير دول الربيع الأخرى، وتسقط حكم الجماعة، بقيت تونس تراوح مكانها، بل وتتراجع عما كانت عليه حالتها قبل «ربيعها».

ووفقاً للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، فإن مستوى المعيشة انخفض بنحو 40 %، ووصلت نسبة البطالة إلى 35 %، لتشمل نحو 800 ألف عاطل عن العمل، وتدهورت قيمة العملة، وغرقت ميزانية الدولة في الديون، وارتفع العجز في الموازنة العامة.

والسبب وراء ذلك، تجلى في تشكيل ثماني حكومات أعقبت الإطاحة بنظام بن علي، وكانت حركة «النهضة»، إما ترأس بعضها أو تشارك في أخرى، وفشلت جميعها في أن تحقق حكماً مستقراً، وأن تواجه ما يحيط بالبلاد من أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية. وتصاعد ذلك، مع اتساع نطاق التطرف الديني، الساعي إلى الإجهاز على كل منجزات الحداثة، التي أرسى دعائمها الحبيب بورقيبة منذ منتصف القرن العشرين، بعمليات القتل والتفجير والإرهاب. وفي تلك الأوضاع، باتت الديمقراطية التونسية «المحسودة»، تخرج من أزمة سياسية طاحنة، إلى أخرى!

انتفض التونسيون، طلباً للحرية وكرامة العيش والمساواة، وأسقطوا نظاماً استبدادياً فاسداً، ليس لكي يحل محله بآليات ديمقراطية هشة، وأحزاب حديثة التكوين، حكم جماعة «الإخوان»، الشره للسلطة والمال والنفوذ، والساعي إلى إقامة أممية إسلامية، لا مكان فيها للدولة الوطنية.

والرطانة السياسية السائدة في بعض وسائل الإعلام الغربي والعربي، التي تتسم بدرجة عالية من الاحتيال، وتزييف الوعي، بتشغيل أسطوانة الديمقراطية التونسية المثالية المحسودة من جيرانها، لا تستطيع أن تلغي الحقائق على الأرض. فهبوط حركة «النهضة» على الثورة التونسية من الخارج واختطافها، قد عرقل التطور السلمي الديمقراطي على مدار عقد كامل، غابت عنه خطط للتنمية، تعالج أزمات الاقتصاد الهيكلية، وأعاقت الاستقرار الحكومي والبرلماني، في ظل السعي الدؤوب لـ «إخوان» تونس، للهيمنة وترسيخ النفوذ، بهدف لا يحيدون عنه، هو تغيير الطابع المدني الحداثي للدولة، على حساب المصالح العامة.

وفي مواجهة ما تسعى إلى فرضه حركة «النهضة»، بالمناورة والعنف والالتفاف على مطالب التونسيين، بقيت الحركة النقابية، في موقف الدفاع، وحائط الصد أمام تلك الموجة الرجعية الزاحفة، ما وضع البلاد في حالة انتقالية دائمة.

خلفت تلك الأوضاع السياسية البائسة، في تونس وغيرها من الدول التي اجتاحها «الربيع»، كثيراً من علامات الاستفهام التي تستحق جهوداً علمية مخلصة، تتسم بالنزاهة العقلية، وشجاعة البحث عن الحقيقة، للتوصل إلى إجابات صحيحة، تخدم أهداف أوطاننا وشعوبنا، ومن بينها السؤال المحوري التالي: هل يقود التغيير بالجماهير الشعبية إلى طريق مسدود؟ وهل الديمقراطية تؤدي إلى فوضى، تخل بالاستقرار السياسي، وتحول دون الإصلاح؟.

كثيرون من الفئات الاجتماعية، لا سيما ملايين ممن يعملون في القطاع الاقتصادي غير الرسمي لتلك الدول، سيجيبون بنعم. لكن الأكيد أن المراهنة على الجماهير الشعبية، تفقد معناها، إذا ما اقتصرت على الرهان على حجمها العددي، أو وجودها الفسيولوجي، دون المراهنة علي توعيتها بمصالحها الحقيقية، وتنظيمها للدفاع عنها. كما تثبت كل التجارب أن الديمقراطية لا تقف على قدميها ثابتة، دون مؤسسات راسخة تحميها أحياناً من انحرافاتها غير الديمقراطية، ويعد ما دون تلك الشروط، بؤساً عميماً، يشرحه عنوان المقال!

* رئيسة تحرير جريدة «الأهالي» المصرية

Email