المسؤولية المجتمعية العابرة للحدود

كم تمنينا أن يكون الوباء عبارة عن هبة واحدة مآلها الاندثار ولو بعد حين، ولكن الواقع والأرقام والتطورات تشير إلى عكس ذلك لحين إشعار آخر. والتمني لا يكفي لإعادة الحياة إلى ما كانت عليه في عصر ما قبل «كوفيد 19» أو زمن ما قبل «كورونا».

ولأن نعمة العقل موجودة وهبة المنطق مرغوب فيها في مثل هذه الأحوال المفروضة على الكوكب، فإن تأقلمنا بات فرض عين، وتخطيطنا لما هو قادم صار ضرورة حتمية لا بديل عنها. جانب معتبر من التأقلم الحميد يكمن في المسؤولية المجتمعية تجاه بعضنا البعض. والجميع صار مشبعاً ببديهيات الوقاية من ارتداء الكمامات وغسل الأيدي وقواعد التباعد الاجتماعي وتجنب لمس العينين والأنف والفم. كما أصبح الكل ملماً بالأعراض والسبل المثلى والخطوات المنصوص عليها في التعامل معها حال ظهورها، مع أخذ الفروق بين الدول وبعضها بحسب أنظمتها وطاقاتها الصحية في الحسبان.

ولأن الصدمة في أولها تكون أشد وأعتى، وآثارها أقسى وأغلظ، فإن هذا يكسبنا صلابة ومناعة في التعامل مع الموجة/ الموجات التالية، وهذه نقطة إيجابية في محيط الخوف والقلق الذي نعيشه. ونضيف إلى الإيجابيات تقييم أداء عدد من الدول العربية في الموجة الأولى من الوباء، وهو التقييم الذي ينافس – وأحياناً يتفوق - على دول أخرى كنا نظنها الأكثر تقدماً والأسرع استجابة والأعلى جهوزية. وعلى الرغم من الفروق بين هذه الدول وبعضها من حيث قدرة الاقتصاد على الصمود، والأنظمة على التعامل، والشعوب على الاستجابة وغيرها من الظروف المعيشية والاجتماعية والديموغرافية، إلا أن أداء دول عدة حتى شهر يونيو الماضي كان جيداً جداً. فمثلاً، ترأست الإمارات مكانة القمة بين دول المنطقة من مؤشرات الأمان وسط جائحة «كورونا»، وذلك بحسب تقرير أصدرته مجموعة Deep Knowledge والذي رصد وقيم حالة الأمان في مئة دولة. المعايير المعتمدة هي: سرعة الاستجابة، وكفاءة الإغلاق والحجر، وجهوزية القطاع الصحي، ومرونة الاقتصاد، وخطوات إعادة الأنشطة تدريجياً. وتلت السعودية الإمارات. كما تقلدت كل من البحرين وعُمان ولبنان ومصر وتونس والأردن مكانات جيدة، وذلك على الرغم من الظروف بالغة الصعوبة التي يخوضها العديد من هذه الدول قبل ظهور «كورونا».

ظهور الجائحة التي قررت البقاء معنا بعض الوقت يخبرنا أن مسائل التخطيط والتجهيز للمستقبل القريب – الذي هو غداً - لم تعد رفاهية أو حكراً على دول قادرة، ولكنها حكر على دول راغبة في البقاء على قيد الحياة. التعليم ومنصاته، العمل وسوقه، الإنتاج ومقوماته، الاستهلاك ومعاييره، الزواج وقيوده، الإنجاب وقواعده، الصحة ومتطلباتها، الاقتصاد وأعمدته، السياسة وآفاقها المستجدة، والحياة وكل تفصيلة من تفاصيلها موضوعة على الجدول المستعجل لكل دولة من دول المعمورة.

الميزة الكبرى في الحياة في كنف «كورونا» هي أن الجميع – من دون استثناء – موضوع على خاصية التخطيط والترتيب والتفكير والعمل المستمر. لم يعد أحد يملك رفاهية حياة «اليوم بيومه» أو «زي ما تيجي تيجي». بالطبع الرب في التدبير، ولكن يبقى العبد في التفكير.

التفكير في ما هو قادم مربك، ولكنه يفتح آفاقاً جديدة ربما كان يجدر أن يتم فتحها قبل عقود، ولكن أن تأتي متأخراً ولو مصحوباً بـ«كورونا» أفضل من ألا يأتي من الأصل. المستقبل القريب يحمل ملامح لقاح (أو لقاحات) ستكون متوافرة لدى القادرين، سواء كانوا أفراداً أو دولاً. وهذا يطرح سؤالاً حول عدالة الحصول على اللقاح من جهة، والآثار المتوقعة لتحصين البعض وترك البعض الآخر نهباً للإصابة! ولأن المنطقة العربية أصبحت ذات خصوصية في نوعية مشكلاتها وأوضاعها، فإن الأوضاع الأمنية واستمرار الصراعات في العديد من الأماكن، منها ما هو محلي ومنها ما هو عابر للحدود يدفعنا جميعاً إلى التفكير في الأوضاع الصحية والمعيشية لملايين اللاجئين والنازحين العرب في دولهم ودول الجوار وغيرها، ولا سيما أن العديد من المنظمات الأممية التي تساندهم وتدعمهم تعاني نقص الإمدادات والتمويل. ونضيف إلى أوضاع اللاجئين في ظل استمرار الصراعات والقلاقل، جزئية تتعلق بالإرهاب وصناعته وأجندته التي ربما تكون قد فترت قليلاً بفعل صدمة الفيروس الأولى، ولكن ممولي وداعمي ومنتفعي الإرهاب سيعاودون الهجوم مجدداً، إن لم يكن من باب العمليات والتفجيرات الكلاسيكية فمن نافذة المضي قدماً في إفساد الفكر وتخريب العقول والقلوب.

المنطقة في حاجة شديدة إلى تكاتف الأيدي والعقول والقلوب. فقد ولى وأدبر زمن الكلام المعسول، و«العلاقات الأخوية الثنائية بين البلدين» و«دعم أواصر الثقة بين الشعبين» على الورق، وحان وقت تكاتف المصالح لإنقاذ الشعوب. والحقيقة أن دولاً مثل الإمارات ومصر تحمل تاريخاً حافلاً بالتكاتف الصادق. هذه المرة لن يقتصر التكاتف على دعم مادي هنا أو مد يد العون هناك، ولكنه يمتد كذلك إلى المسؤولية المجتمعية العابرة للحدود.

* كاتبة صحفية