فقه التعامل مع خطأ المؤسسات الحكومية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشكل المؤسسات الحكومية إحدى الركائز والأعمدة الأساسية للدول والمجتمعات، في دعم التنمية والتطوّر وتوفير الخدمات المتنوعة، ونشر السعادة والرفاهية، وتحقيق تطلعات المواطنين ومتطلباتهم، وتتنوع هذه المؤسسات بحسب اختصاصاتها، في عصر أصبح فيه العمل المؤسسي ضرورة لتحقيق المصالح بأعلى كفاءة وجودة وفق منظومة تعاونية إبداعية مشتركة.

وإيماناً بأهمية الدور المؤسسي، سعت دولة الإمارات باستمرار إلى تحقيق التميز الحكومي في سائر مؤسساتها الرسمية، وتعزيز قدراتها على الإبداع والابتكار وتحقيق السعادة المجتمعية، وأطلقت برامج عدة تُعنى بالتميز الحكومي، منها برنامج الشيخ خليفة للتميز الحكومي الذي أُطلق عام 2009، ومنظومة التميز الحكومي التي أطلقت عام 2015، بالإضافة إلى رصد الجوائز لتعزيز الأداء الحكومي المتميز ومكافأة المتميزين.

وخلال هذه المسيرة المشرقة، حققت دولة الإمارات مراكز متقدمة في معايير الكفاءة الحكومية والتنافسية العالمية، ولا تزال تحلق في آفاق التميز الحكومي والارتقاء المستمر لمؤسساتها الوطنية في مسيرة لا حدود لها، كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: «مسيرة التميز متواصلة ومستمرة لا تقف عند حدود»، ولذلك كان تطوير المؤسسات والارتقاء بها استراتيجية مستدامة تنتهجها دولة الإمارات، بما يحقق السعادة والرفاهية لشعبها والمقيمين على أرضها.

ويستند هذا النهج التطويري المستدام على حقائق واقعية عدة، منها أن الحياة تتميز بحركة متغيرة لا ثبات لها، والتحديات متجددة لا تنتهي، ما يتطلب مواكبة ذلك عبر نهج تطويري بل استباقي مستمر للمؤسسات، ومن الحقائق كذلك في هذا المضمار أن أي مؤسسة في العالم، مهما بلغت في الجودة والكفاءة، هي في نهاية الأمر نتاج جهد بشري.

ولذا فهي ليست بمنأى عن صدور خطأ أو تقصير منها، وهذه حقيقة واقعية لا مفر منها، فليست هناك على وجه الأرض مؤسسة مثالية منزهة عن الخطأ، وبدون وضع هذه الحقيقة بعين الاعتبار، تتوقف عجلة التطوير والارتقاء، ولذلك يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: «لا يخلو عمل بشري من خطأ، فمن يعمل لا بد أن يخطئ، ولكن الأهم هو عدم تعمد الإهمال والخطأ، والخطأ يعلّم الإنسان».

إن هذه الحقيقة الأخيرة التي ذكرناها تجعل صدور الخطأ من أي مؤسسة أمراً محتملاً، وذلك يتطلب من المتعاملين مع هذه المؤسسات تعاملاً ذا شقين، الشق الأول السعي في تقويم الخطأ الذي وجدوه وتصحيحه بإسداء النصيحة والنقد البنَّاء لهذه المؤسسة، وبذلك يكون المتعامل جزءاً من اللبنة التطويرية لهذه المؤسسات، مترجماً قيم المواطنة الإيجابية الصالحة بآرائه السديدة ونصائحه المشرقة، وقد قال الله تعالى: (وأنا لكم ناصح أمين)، وقال النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ : «الدين النصيحة».

وأما الشق الثاني من التعامل فهو تحلية هذا النقد بالعناصر الإيجابية؛ ليكون نقداً راقياً يهدف للتقويم والارتقاء والمعالجة الحكيمة للخطأ، ومن ذلك أن يتمّ النقد بالطرق الصحيحة وعبر القنوات المخصصة التي تحقق الغاية المنشودة منه، وتسد الخلل والنقص الذي اطلع عليه المتعامل عبر المسار المخصص له، وقد وفرت الكثير من المؤسسات قنوات للتواصل ومنصات لتقديم الشكاوى.

كما فتحت القيادة الحكيمة قنوات عدة لاستقبال شكاوى المراجعين وعلاجها، ومن العناصر كذلك في هذا الشق دعم الشكوى بعوامل القبول والاقتناع، من الكلمة الطيبة، والحجة الواضحة، التي تكشف وجه الخلل بأسلوب راقٍ، ودليل مقنع، ومن العناصر كذلك حسن النظر في الواقعة والتأني فيها وعدم الاستعجال، فقد يظن المتعامل خطأ ما ليس كذلك، ولذلك قال بعض العلماء: «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب»، إلى غير ذلك من العناصر الإيجابية التي تقتضيها قيم النقد الهادف.

إن هناك خيوطاً رفيعة بين التقويم والتشهير، وبين النقد الإيجابي الصحيح الذي يحقق المصالح الخاصة والعامة، وبين النقد السلبي الذي قد يضر أكثر مما ينفع، وقد يفتح أمام المتربصين والمصطادين في الماء العكر أبواب التشويه والتشويش، فالنقد حاجة ومسؤولية وقيم.

لقد وضعت دولة الإمارات مصلحة الإنسان فوق أي اعتبار، وجعلت المؤسسات أدوات ووسائل لسعادته ورفاهيته وتوفير أرقى الخدمات له، في مسيرة تطويرية تقويمية مستمرة، منطلقة نحو آفاق الريادة والصدارة والسعادة مستدامة.

*رئيس مركز جلفار للدراسات والبحوث

 

Email