هشاشة المجتمعات الحديثة.. حالة الولايات المتحدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتكشف لدينا حقائق مهمة حول المجتمعات الحديثة بسبب الأزمات التي تواجه العالم، سواء كانت الجائحة والضائقة الاقتصادية المصاحبة أو البطالة المتفشية. وقد فاقم وعمق هذه الكتلة المعقدة من المحن اضمحلال المؤسسات السياسية التي من المفترض أن تعالج هذه الأمراض الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وإذا ما أخذنا الولايات المتحدة كنموذج للمجتمعات الحديثة والتي تتعرض اليوم لأزمة سياسية واجتماعية واقتصادية نجد أن المؤسسات بدأت تفقد طاقتها الاستيعابية لمواجهة هذا الكم من المصاعب والتي تراكمت عبر السنين. وبدا على هذه المؤسسات الوهن والضعف والترنح بأعباء المرحلة، بعكس ما كانت عليه منذ عقود.

وقبل أربعة عقود نشر عالم السياسة الشهير صامويل هنتنغتون كتاب بعنوان «السياسة الأمريكية.. نذير التنافر». ويقول هنتنغتون إن المجتمع الأمريكي أنشئ على مثاليات لا تتوافق مع المؤسسات. بل أن هذه المؤسسات لا تستطيع تلبية استحقاقات هذه المثل. لأن المؤسسات بطبيعتها استحواذية والمثل الأمريكية بطبيعتها تحررية. وهنا يكمن التناقض! ويشير هنتنغتون إلى هذه المعضلة بالفجوة بين المثل والمؤسسات.

وبسبب هذه التناقضات الأزلية، يجتاح الولايات المتحدة انفعال عقائدي تقريباً كل ستين عاماً لتصحيح مسار المؤسسات بمقتضيات المثل التي يحملها المجتمع الأمريكي. ويرى أن أول هذه الانفعالات العاطفية تجسدت في الثورة الأمريكية في العام 1776. وبعد ستين عاماً، أي في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، قامت حركة ضد البنوك بقيادة الرئيس أندرو جاكسون.

وقبل بداية القرن العشرين شرعت حركة التقدميين بقيادة الرئيس تيد روزفلت ضد النظام والمصالح للنخب المتسلطة. وفي الستينيات من القرن العشرين بدأت حركة ضد حرب فيتنام المطالبة بالحقوق المدنية للسود. ونحن هنا بعد ستين سنة، أي 2020، نواجه عاصفة أخرى من الاحتجاجات على إيقاع الستين عاماً. وهل ستكون حركة اجتماعية لإعادة الأمور إلى نصابها.

هناك سؤالان حول نظرية هنتنغتون. الأول، أن القول بأن المجتمع الأمريكي، دون المجتمعات الأخرى، تأسس على المُثل يحتاج إلى دليل ولا يكفي إعلان المُثل التي يقوم عليها. الثاني أنه لم يقدم تفسيراً للحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) لأنها لا تتوافق مع وتيرة الستين عاماً.

ومهما يكن الأمر فإن هشاشة المجتمعات الحديثة هي نتيجة لوهن واضمحلال المؤسسات، سواء كانت الحكومية أو المدنية. ففي مقال مهم (نشر 2014) للمفكر فرانسيس فوكوياما، التلميذ النجيب لهنتنغتون، بعنوان «أمريكا في تفسخ: مصادر الاعتلال السياسي»، يرجع فوكوياما المشاكل التي تواجهها المجتمعات إلى اضمحلال المؤسسات بسبب الحمولة المفرطة في معالجة المشاكل التي تواجهها هذه المؤسسات. أي أن المؤسسات بدأت تتحمل أعباء أكبر من مقدرتها.

ولعل أزمة جائحة كورونا هي التعبير المادي على عدم قدرة المؤسسات استيعاب المستجدات إذا فاقت عن طاقتها. فالمؤسسات الصحية لم تستطع مواجهة الوباء لازدياد عدد المصابين بما يفوق قدرة هذه المؤسسات من مواجهة المرض. وكان ما كان حتى في الدول الأكثر تقدماً مثل الولايات المتحدة، بريطانيا وإيطاليا والصين وكوريا.

وأهم خصائص المؤسسات وفاعليتها هي قدرتها في التكيف مع المستجدات. ورأينا كيف أن عدم قدرة تكيف مؤسسات الحكم في لبنان أودت بالنظام كله في أتون حرب أهلية في القرن المنصرم. وهناك حالات أخرى في كثير من الدول التي واجهت المصير ذاته لعدم قدرة النظام السياسي استيعاب المستجدات الاجتماعية والسياسية.

وهناك مسألة جوهرية بالنسبة للمؤسسات للعب الدور المنوط بها والتي تتعلق باستقلاليتها من المصالح المجتمعية الخاصة. وهذا ما يعاني منه كثير من المؤسسات السياسية الأمريكية وهي تكلس المصالح الخاصة للأفراد والجماعات حول المؤسسات الحاكمة سواء كانت تشريعية أو تنفيذية.

والنظام السياسي الأمريكي بطبيعته يشجّع التنافس بين مجموعات المصالح للتأثير على صنع القرار. بل إن اللوبيات المتعددة والتي تزخر بها واشنطن تعتبر جزءاً من النظام السياسي القائم وتحظى بحماية القانون. فمثلاً يعتبر لوبي السلاح من أقوى اللوبيات والذي يعرقل أي تشريع لحمل السلاح رغم تكرار المآسي الكثيرة في حوادث إطلاق النار في أمريكا.

ويبقى السؤال، هل ستكون انتفاضة جورج فلويد منعطفاً في تاريخ أمريكا لحدوث تجديد لمؤسسات الدولة والمجتمع، أم سيكون بداية انحدار أكبر وسقوط متدرج للدولة الأولى في العالم؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.

*كاتب وأكاديمي

Email