مصر في زمن «كورونا»

ت + ت - الحجم الطبيعي

تستحق الدولة المصرية في مواجهة أزمة فيروس «كورونا» العالمية التقدير والاحترام، بأجهزتها ومؤسساتها كافة، التي اتخذت جميع الإجراءات الاحترازية على الحدود وفي المطارات والموانئ والمنافذ الحدودية، وفي الداخل، وذلك قبل الإعلان عن أية إصابة بهذا الفيروس في مصر، وهو الأمر الذي استحقت عنه التنويه من قبل ممثل منظمة الصحة العالمية في مصر الدكتور جون جيبور في السادس عشر من فبراير عام 2020 للتعامل المنضبط والاحترازي في مواجهة الانتشار وحماية صحة المواطنين.

جمعت خطة الدولة المصرية لمواجهة هذا الوباء بين الإدارة السياسية للأزمة والإدارة الفنية والتقنية والطبية، فعلى مستوى إدارة الأزمة سياسياً؛ لم تقع في فخ التهوين أو التهويل، وتجنب إحداث الفزع والرعب وفي الوقت ذاته تجنب عدم الاكتراث واللامبالاة والتصرف وفق الاحتمالات الممكنة، والسيناريوهات المختلفة، وأما على مستوى الإدارة الفنية والتقنية والطبية فقد طبقت المعايير الدولية التي أوصت بتطبيقها منظمة الصحة العالمية، واتبعت في ذلك حق المواطنين في المعلومات والتوعية بخطورة هذا الوباء، وأن مواجهته مسؤولية تقع على عاتق الدولة، والمواطنين معاً وفي تلازم بين هذين المستويين من المواجهة.

وإذا كان الرد على الإشاعات والأكاذيب سهل لأنه يتمثل في الإصرار على إعلان المعلومات والحقائق كما هي فعلاً ومن المصادر الرسمية الموثوق بها، فإن بعض أوجه فقدان الثقة والشك في المعلومات المعلنة، يمثل أمراً يتعلق بالأزمة والمخاطر المرتبطة بها والقلق الذي اعترى الرأي العام والعثرات التي تواجه ابتكار مصل أو لقاح من قبل الأجهزة الطبية والدوائية العالمية حتى الآن، ولا يقتصر هذا الأمر على مصر فحسب، بل هذا ما يحدث في فرنسا مثلاً وفي ذات التوقيت وبخصوص الأزمة ذاتها؛ أي انتشار هذا الفيروس، فقد كشف استطلاع للرأي أجري فيها عن أن 57 % من الفرنسيين يعتقدون أن الحكومة الفرنسية «تخفي بعض المعلومات»، ومن هؤلاء من يعتقد أن الحكومة تريد بث الخوف بين المواطنين.

الأوبئة والأزمات الطبية والصحية لا يمكن حصر نتائجها وتداعياتها في المجال الطبي أو الصحي أو العلمي، بل تتضمن نتائج سياسية واجتماعية، هكذا كانت عبر التاريخ، ففي التاريخ الأوروبي وفي منتصف القرن الرابع عشر حصد وباء «الطاعون» ما يقارب نصف سكان القارة الأوروبية، وتضاءل عدد العاملين في الزراعة وزاد الطلب على الأعمال الأخرى، بعيداً عن الريف، وتم توجيه الاستثمار وتحديث تقنيات الزراعة وانهار نظام السخرة وقد أفضت هذه التغيرات إلى تخليق جنين الثورة الصناعية وإحداث التراكمات الاجتماعية والإنتاجية والاقتصادية التي مهدت لظهور هذه الثورة بعد ذلك بعدة قرون، كذلك أفضى وباء الحمى الصفراء إلى هزيمة فرنسا في «سانت دومينج» بعد أن قضى هذا الوباء على عشرات الآلاف من الجنود الفرنسيين.

في الحدود التي انتشر فيها وباء «كورونا» عبر العالم حتى الآن، يمكن القول إن هذا الانتشار يعزز من مواقع السياسات اليمينية والشعبوية واليمين المتطرف والمناهضين للعولمة ودعاة الانعزال، كما يدعم النخب اليمينية والشعبوية في كافة الأنحاء ومعاداة المهاجرين، وتهديد التجارة الدولية بتوازناتها الحالية ويحفز بناء الأسوار على الحدود، كما رأينا في مواجهة «ترامب» انتشار الفيروس حيث يوشك على القطيعة بين أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي.

لقد كشف انتشار الوباء عن أهمية الاقتصاد الصيني للعالم بأجمعه واكتشفت أوروبا اعتماد اقتصاداتها على الاقتصاد الصيني وخاصة في تصنيع البطاريات الكهربائية والمواد الفعالة للأدوية، ومنتجات «هاي تك» والألواح الشمسية والمواد الإلكترونية، وهو الأمر الذي دعا العديد من المراقبين الأوروبيين لإعادة توطين هذه الصناعات في المجال الإقليمي الأوروبي وكذلك العديد من الأنشطة، كما أن الأزمة قد كشفت عن الوجه الحضاري والإنساني للصين التي قدمت المساعدة للعديد من الدول.

قد يكون من المبكر استشراف عالم ما بعد «كورونا» وخاصة أن الوباء حتى الآن رغم خطورته لم يصل ونأمل ألا يصل إلى خطورة وباء الإنفلونزا الإسبانية أثناء الحرب العالمية الأولى أو خطورة وباء الطاعون، ومع ذلك فإن إرهاصات التغيير على الصعيد العالمي تبدأ بالتشكل من الآن.

 

 

Email