سيظل مكانك شاغراً في مجلسنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

على كرسيه المتحرك كان يصل كل يوم اثنين من الشارقة، لحضور مجلسنا الأسبوعي في ندوة الثقافة والعلوم بدبي. لم يمنعه المرض من المحافظة على هذا الطقس، الذي يمارسه منذ إنشاء الندوة قبل أكثر من ثلاثة عقود، وقد كان أحد مؤسسيها وعضواً في مجلس إدارتها لما يقرب من 16 عاماً، لكن اعتلال صحته في الآونة الأخيرة أرغمه على الغياب، فظل مكانه في المجلس شاغراً، حتى وافاه الأجل المحتوم يوم الاثنين الماضي.

كان عمران بن سالم العويس، عليه رحمة الله، فريداً في أخلاقه وعلمه وأدبه، عرفته على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وتشرفت بالعمل معه، من خلال مجلس إدارة ندوة الثقافة والعلوم، فلم أره يوماً إلا سمح الوجه مبتسماً، يعامل الصغير والكبير بأدب جم وتواضع كبير. كان دمث الأخلاق حييّاً لا تكاد تسمع صوته إذا تكلم. وكان تاريخ الإمارات والمنطقة وأنساب عائلاتها محل اهتمامه الأكبر وشغله الشاغل.

لم يترك كتاباً في هذا المجال إلا قرأه واطلع عليه، لكنه كان دقيقاً إلى حد الحذر في استخدام أي معلومة، ولهذا يلاحظ البعض عليه قلة كلامه، وكنا نحن القريبين منه نعلم أنه لا يريد الخوض في بعض الموضوعات لحساسيتها، خاصة عندما يتعلق الأمر ببعض الخلافات والحروب، التي دارت في المنطقة، والتي كانت تغذيها قوى الاستعمار كي تدق الأسافين بين أبناء المنطقة، لذلك كان عمران العويس، عليه رحمة الله، يتحاشى الحديث عنها، خشية أن تُنقَل عنه معلومة مختَلف عليها فيأخذها البعض حجة ودليلاً. إلى هذا الحد كان، رحمه الله، دقيقاً وحساساً تجاه التاريخ وأنساب عائلات المنطقة، وهما العلمان اللذان لا يضاهيه أحد فيهما.

كانت حياته، عليه رحمة الله، رحلة متصلة من الدراسة والتحصيل، بدأها من الشارقة، حيث تلقى تعليمه الأول، قبل أن يلتحق بمدرسة الفلاح في دبي، ثم يسافر إلى الهند لاستكمال دراسته، في زمن كان السفر فيه مقتصراً على طلب الرزق لضعف الموارد الاقتصادية في الإمارات، ولهذا كان سفره من أجل تحصيل العلم من الحالات النادرة، وبهذا سجل، عليه رحمة الله، اسمه بين الأسماء القليلة، التي تلقت العلم في الخارج خلال مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي، ليعود مسخراً ما درسه في خدمة وطنه، من خلال عضويته في لجنة التراث والتاريخ التي تشكلت بعد قيام الدولة، وفي مجلس أمناء مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، ثم المشاركة في تأسيس ندوة الثقافة والعلوم عام 1987م، وعضوية مجلس إدارتها.

ورغم عمل المرحوم عمران العويس بالتجارة، فقد كانت الثقافة والتاريخ هما همه الأول، لا تدخل عليه مكتبه في السوق إلا وتجده ممسكاً بكتاب يقرأه.

كان، عليه رحمة الله، كلما لقيني في ندوة الثقافة والعلوم يسألني: ماذا تقرأ هذه الأيام؟ فأجيبه ذاكراً الكتاب الذي كنت أقرأه وقت السؤال، فيرد لفرط أدبه الجم وأخلاقه الكبيرة مستحسناً ما أقرأ حتى لو كان بعيداً عن اهتمامه، وكنت أعلم أن اهتمامه، عليه رحمة الله، كان مُنصباً على كتب التاريخ والأنساب والشعر، فأقدّر له هذه الأخلاق العالية، وحرصه على استحسان ما يقرأه غيره حتى لو لم يكن يقع في دائرة اهتمامه.

وهذه مزية لا تجدها في كثير من الناس الذين يستسخفون ما يقرأ غيرهم، ويعتقدون أن ما يقع في دائرة اهتمامهم هم فقط هو ما يستحق القراءة، وأن غيرهم يضيعون أوقاتهم في قراءة ما لا يفيد ولا ينفع.

يعتقد كثير من الأخوة والأصدقاء، ومنهم الأستاذ عبدالغفار حسين، الذي أشار إلى ذلك في مقال له بجريدة «الخليج» الأسبوع الماضي، يعتقدون أن عمران العويس، عليه رحمة الله، الذي لم ينشر حسب علمي شيئاً في حياته، ربما ترك كتابات وتعليقات وحواشي على الكتب، التي تزخر بها مكتبته الغنية.

وقد دعا الأستاذ عبدالغفار حسين إلى أن تتم مراجعة مكتبة عمران العويس في الشارقة، ومكتبه التجاري في دُبي، للتفتيش عن أي كتابات دوّنها، واقترح مشكوراً على ندوة الثقافة والعلوم أن تشكل من بين أعضائها فريقاً للقيام بالاستقصاء عن مكتبة عمران العويس، عليه رحمة الله، بغية الاستفادة منها.

وأنا بدوري أضم صوتي إلى صوت الأستاذ عبدالغفار حسين، وأعد بأن تسعى الندوة إلى ذلك، كما وعد رئيس مجلس إدارتها الأستاذ بلال البدور.

رحم الله أبا راشد رحمة واسعة، وأجزل له العطاء بقدر ما قدم لوطنه وأمته، ولا نقول له سوى: سيظل مكانك شاغراً في مجلسنا كلما أطل مساء الاثنين، موعد مجلسنا الأسبوعي، الذي شاء القدر أن ترحل فيه عنا أيضاً.

 

 

 

Email