لا صوت يعلو فوق صوت الأرباح

كشف تفشي وباء فيروس «كورونا» المستجد (كوفيد 19) على المستوى الدولي، عن مجموعة حقائق جديرة بالتأمل، واستخلاص الدروس، فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يواجه المجتمع الدولي أزمة بمثل هذه الخطورة، تستعصي الجهود على تطويقها، وتعجز القدرات العلمية المتقدمة عن التنبؤ بنهايتها، ويجري التنافس الحثيث بين مراكز البحوث الطبية والعلمية في أنحاء العالم، للتوصل إلى إنتاج عقار لعلاج الفيروس المستجد، وتخليق لقاح للوقاية منه.

 

ومن اللافت للنظر أن الفيروس ظهر وتفشى في الدول المتقدمة، قبل الدول النامية والفقيرة، حيث كانت بؤرته مدينة ووهان الصينية، ثم أضحت إيطاليا هي بؤرته، قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة، ومعظم الدول الأوروبية. كما أن الإصابات به في الدول الأوروبية كانت أعلى في أعدادها وفي حالات الوفاة بها من الدول النامية، برغم ما تمتلكه تلك الدول من أنظمة طبية متقدمة، تفوق مثيلاتها في الدول الفقيرة. وبذلك أسقط فيروس «كورونا» خرافة عنصرية تكرست في الذهنية الغربية طوال العقود الماضية، بأن القارة الأفريقية ودول الجنوب الفقيرة هي منبع الأمراض ومصدر الأوبئة!

ارتبكت الدول الغربية وهي تواجه هجمات الوباء الشرسة، وكشف الهجوم عن نقص في معداتها الطبية، وقصور في عدد مستشفياتها، وعجزها عن استيعاب التزايد في الإصابات بالفيروس، وهو ما اشتكت منه الطواقم الطبية في كل من فرنسا وإيطاليا، واستهان الرئيس الأمريكي ترامب بادئ الأمر بالوباء، فاتهم خصومه في الحزب الديمقراطي بالمبالغة في تأثيرات الفيروس، لضرب حملته الانتخابية ثم ما لبث أن غير الموضوع، بأن وصف المرض «بالفيروس الصيني».

فيما بدا أنه رد على اتهام صيني بتخليق الفيروس من قبل الجيش الأمريكي لعرقلة التقدم التكنولوجي والاقتصادي في الصين، والذي أضحى يتفوق على مثيله الأمريكي، لكن الأغلب أنه أراد بتلك المعركة الوهمية، التغطية علي الانتقادات الداخلية لإدارته الأزمة، وتعليق فأس المسؤولية عنها في عنق الصين.

لكن إصابة نحو ألف شخص، وموت أكثر من ثلاثين أمريكياً كانت كفيلة بأن يعيد ترامب الأزمة لتقف على قدميها، بدلاً من رأسها، فأعلن حالة الطوارئ، وحظر حركة الطيران على القادمين من الدول الأوروبية للولايات المتحدة لمدة شهر.

كما طلب من الكونغرس اعتماد مبلع 8.5 مليارات دولار للتصدي للآثار الاقتصادية السلبية لتفشي الفيروس، وبينها خسائر في الوظائف، وإفلاس في الشركات، وازدياد في أعداد العاطلين، وركود في الاقتصاد، واحتمالات زيادة في أعداد المصابين لضعف شبكات الأمان الاجتماعي، المخولة بإسباغ الحماية على الأمريكيين الأكثر احتياجاً.

وبينما تبدو المواجهة الغربية لتفشي الفيروس متأخرة ومرتبكة وهشة، تمكنت دولة مركزية مثل الصين- وحتى بعض الدول العربية- من إتمام المواجهة بنجاح. وحتى كتابة هذا المقال (الأحد) أعلنت الصين خلو مدنها من أية إصابات، ليس هذا فقط، بل مدت يد المساعدة للتغلب على الفيروس، لعدد من الدول الأوروبية بينها إيطاليا وصربيا.

بينما ارتفع عدد الوفيات في الولايات المتحدة إلى 5000 حالة وفاة وأكثر من 218 ألف مصاب، كما وصلت حالات الإصابة في فرنسا إلى 58 ألف شخص، وتوفي 4 آلاف، بينما تضاعفت الحالات في إيطاليا التي غدت بؤرة الفيروس الأوروبية، وبلغت 111 ألف إصابة، وتوفي 13 ألف شخص.

نجحت العولمة في توسيع المعارف الإنسانية عبر ثورة الاتصالات التي أحدثتها، ولا تزال تحدثها وتقدم في كل يوم جديداً. كما أسقطت الأسوار التي شيدت حول معاقل الاستبداد في أصقاع الكرة الأرضية، فبات مكشوفاً يسهل مساءلته وحتى ملاحقته، لكنها وقد فعلت ذلك، فشلت فشلاً ذريعاً، في توظيف السياسات الاقتصادية الليبرالية، التي تعتمد على إطلاق آليات السوق التي لا تعبأ سوى بتحقيق الربح، وتشل يد الدولة عن التدخل في الأنشطة الاقتصادية، في التصدي الطبي العالمي القائم على التعاون.

والتحلي بنزعة إنسانية الطابع، للتوصل إلى دواء لعلاج الفيروس، ولقاح لمنع العدوى به، فقد تغلبت روح المنافسة الساعية للربح بأي ثمن، على سوق صناعة الدواء، التي تحتكر معظمها نحو عشر شركات عالمية، نصفها شركات أمريكية، وتستحوذ على تريليون دولار سنوياً. ولعل صرخة الباحثة الإسبانية التي يتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، تلخص هذا الفشل حين قالت:

تمنحون لاعب الكرة مليون يورو في الشهر، وباحث البيولوجي 1300يورو، وتبحثون عنده لعلاج للكورونا؟ اذهبوا لرونالدو وميسي ليوفرا لكم العلاج! معنى الكلام أن المطلوب الآن أن تتضافر جهود المجموعة الدولية لتوفير الميزانيات الكافية للبحث العلمي والطبي، بما يجعل عالم ما بعد «كورونا» أكثر أمناً، ويجعل الانتصار على مثيله في المستقبل أمراً ممكناً، لتربح البشرية جمعاء.

* رئيسة تحرير جريدة الأهالي المصرية