علماء غير متسامحين

ت + ت - الحجم الطبيعي

يثير استغرابي علماء الدين الذين يهددون من يختلف معهم في الرأي، ويقصونهم عن الجنة ويدخلونهم النار قبل يوم الحساب، ويجرّونهم إلى المحاكم وساحات القضاء، مع حفظ حق هؤلاء العلماء في عدم التطاول عليهم وسب أعراضهم، والانتقاص من أصولهم أو جنسياتهم المكتسبة، فالذين يفعلون هذا خرجوا من دائرة الاختلاف في الرأي إلى الخلاف الشخصي.

هذه الحالات منتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شاشات القنوات التلفزيونية، إلى درجة أنه يخال للمرء أن هؤلاء العلماء منصرفون عن العلوم الشرعية إلى متابعة التغريدات والرد عليها، وأن هؤلاء المغردين متفرغون لتتبع عورات العلماء والناس عموماً.

وكلا الفئتين تضربان مثلاً سيئاً للمسلم الذي يفتَرض أن يكون متسامحاً، يجادل من يختلف معه في الرأي بالتي هي أحسن، لا يستخدم التهديد والوعيد لأنه ينتمي إلى رسالة سامية، حملها الأنبياء والرسل، وضربوا لنا أمثلة في التسامح والتعامل مع الأقوام التي أرسلوا إليها بالحكمة والموعظة الحسنة.

ولنا في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المثل والقدوة حينما ذهب إلى الطائف بعد وفاة عمه أبي طالب، وزوجته خديجة، رضي الله عنها، طالباً منهم أن ينصروه بعد أن خذله قومه في مكة، فصده أهل الطائف وردوا عليه رداً عنيفاً، وأغروا به غلمانهم وسفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، وانطلق على وجهه وهو مهموم يشكو إلى الله ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس. ورغم هذا رفض أن يدعو عليهم أو ينتقم منهم.

وقال قولته الشهيرة: «بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً». وتكرر هذا الموقف منه مع كفار قريش بعد فتح مكة عندما عفا عنهم رغم أنهم كذبوه وآذوه وأخرجوه من داره وحاربوه.

هذه هي أخلاق الأنبياء التي يجب أن يقتدي بها المسلمون، مترفعين عن الصغائر، غير منساقين وراء إغراء وسائط التواصل الاجتماعي، ولا مقلدين بعض الساعين إلى الشهرة الذين يستخدمون هذه الوسائل للبقاء تحت الأضواء.

استغرب كيف لم يقرأ هؤلاء الآيات والأحاديث التي تحث على التسامح، وكيف لم يطلعوا على مواقف الأنبياء والرسل التي تظهر صبرهم على أقوامهم الذين كذبوهم ولم يؤمنوا بما أُرسلوا به. كيف لم يقرأوا ويستوعبوا ويستذكروا هذه القصص التي درسناها في مدارسنا، وفهمناها واستوعبناها صغاراً؟ ه

ذه واحدة من أكثر القضايا التي تثير استغراب كل متأمل لما وصل إليه حال أمتنا في عصرنا هذا، كأني بهم لم يقرأوا مقولة الإمام الشافعي، عليه رحمة الله: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» الذي يرسخ قاعدة فقهية وأخلاقية جميلة، لا تحتكر العلم لنفسها، ولا تمنع الآخرين من استخدام عقولهم والتعبير عن آرائهم.

لا شك أن التكنولوجيا الحديثة ووسائط التواصل الاجتماعي قد فتحت آفاقاً رحبة لنشر العلوم والمعارف بين البشر، لكن قليلاً من الناس من استخدم هذه التكنولوجيا والوسائط الاستخدام الصحيح، أما الغالبية العظمى فيستخدمونها استخداماً سيئاً.

قد نجد العذر لغير العلماء حين يخطئون في استخدام التكنولوجيا والوسائط، ولكن أي عذر لمن يصنف نفسه عالماً حين يخطئ في استخدام هذه الوسائط، ويذهب إلى الاتجاه الآخر.

مدفوعاً باعتزازه بنفسه، وبتشجيع البعض له عبر إعادة التغريد بآرائه، أو منحه «اللايكات» التي كلما زاد عددها زاد غلوّ البعض وتمسكهم بآرائهم، وزادت عدوانيتهم التي تدفعهم إلى تكفير غيرهم وتهديدهم، وإلى ممارسات أخرى جدير بالعلماء أن يترفعوا عنها كي تظل مكانتهم رفيعة لدى الناس، وتظل صورتهم ناصعة، ويظلوا قدوات لغيرهم.

لا أقصد بهذا الحديث شخصاً بعينه، ولا أهدف إلى اتهام أحد، لكنها ظاهرة استرعت انتباهي من خلال متابعتي بعض الحوارات التي تجري على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام. وقد ساءتني مبالغة البعض في فرض آرائهم على الناس، وتهديدهم لمن يختلف معهم في الرأي وتكفيرهم، بالقدر نفسه الذي ساءني الغمز واللمز وتحقير البعض لمن يختلفون معه بسب أصله وفصله وجنسيته، كأني بالطرفين نسوا قول الله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».

التسامح فضيلة من الفضائل الكبرى التي دعت إليها الأديان السماوية المتقدمة على الإسلام، وجاء الإسلام ليؤكدها ويرسخها في المجتمع. لذلك علينا أن نصفح «الصفح الجميل» الذي دعا إليه المولى عز وجل في محكم كتابه، وهو ذلك الصفح الذي لا يتبعه منٌّ أو أذى، فالمجتمعات التي تقوم على التسامح مجتمعات صحية سليمة، وأولى الناس بالحرص على فضيلة التسامح والتمسك بها هم علماؤنا الأجلاء الأفاضل.

*كاتب إماراتي

 

Email