نجح اجتماع القمة، الذي استضافته العاصمة الألمانية برلين بمشاركة قادة ومسؤولي 11 دولة، من بينها الإمارات ومصر وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وتركيا، وعدد من المنظمات الدولية والإقليمية، في تحقيق اختراق مهم، ولو بسيط، في مسار الأزمة الليبية المشتعلة منذ نحو تسع سنوات، تجسد في موافقة طرفي الصراع الليبيين على تثبيت هدنة وقف إطلاق النار، وتعهد الدول المشاركة في المؤتمر بعدم التدخل في الحرب الأهلية الدائرة في هذا البلد، وكذلك دعم حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة عليه.
شتان الفارق بين مؤتمر برلين واجتماع موسكو، الذي عقد قبله بأسبوع واحد لتسوية الأزمة الليبية، فالثاني الذي عقد في موسكو كان محاولة لاستنساخ النموذج السوري في ليبيا، من خلال إبرام صفقات ورعاية اتفاقيات تضمن لتركيا دوراً مؤثراً بل وموجهاً من قبل تركيا، لتطورات الصراع في ليبيا، بما يخدم مصالحها ونفوذها، ويستبعد أي دور عربي في هذا البلد العربي، أما الذي عقد في برلين فقد حظي بمشاركة قوية ومؤثرة من الأطراف العربية ممثلة بمصر والإمارات والجزائر والجامعة العربية، بالإضافة إلى بعض الأطراف الدوليين المهمين مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وعقد برعاية الأمم المتحدة، ولذلك لم يثر حساسية الليبيين، ولا الشعوب والدول العربية، على عكس اجتماع موسكو، الذي كان نصيبه الفشل بعد مغادرة المشير خليفة حفتر الاجتماع من دون التوقيع على أية تفاهمات برعاية أنقرة، التي لا تخفي دعمها للميليشيات الإرهابية في طرابلس، وتجاهر بدعمها لهم عسكرياً في مواجهة الجيش الوطني والشعب الليبي، ويعلن رئيسها المسكون بأوهام التاريخ الغابر أن الطريق إلى السلام لن يمر إلا عبر تركيا!
الفارق بين اجتماع موسكو وبرلين أن العرب عامة، والليبيين خاصة، لن يكرروا أخطاء الأمس القريب المأساوية، ولن يسمحوا لأحد بأن يهمش دورهم في أزمات تخصهم هم وحدهم دون غيرهم، ولن يعطوا لتركيا أي دور مؤثر في قضايانا العربية، وكان معالي الدكتور أنور قرقاش واضحاً ومباشراً في هذا الصدد عندما غرد حول نتائج مؤتمر برلين قائلاً: إن «تهميش الدور العربي، كما هو الحال في سوريا، درس قاس لن يتكرر».
ربما لم ينجح مؤتمر برلين في التوصل إلى نتائج تضع نهاية للأزمة الليبية، ولكن يحسب له أن أعطى زخماً جديداً لجهود تسوية الصراع سلمياً من خلال الليبيين أنفسهم، ومن دون تدخل خارجي، كما اتفق المشاركون في المؤتمر على تشكيل لجنة دولية لمراقبة وقف إطلاق النار، يتم تشكيلها بموجب مبادرة للأمم المتحدة، وإخضاع الحظر المفروض على إرسال الأسلحة إلى ليبيا، «لرقابة أقوى من ذي قبل»، وفق ما أوضحت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، وهذا في حد ذاته يمكن أن يحجم التدخل التركي العسكري في ليبيا، والذي تصاعد في الأسابيع الماضية لحماية الميليشيات التي تفرض سيطرتها على العاصمة طرابلس، من خلال إرسال الميليشيات المتطرفة، التي كانت تقاتل في سوريا إلى ليبيا لتكرار النموذج السوري في هذا البلد، حيث تشير تصريحات مسؤولين أمميين إلى أن ما يصل إلى ألفي مقاتل تدعمهم تركيا، وخاضوا الصراع في سوريا، انضموا للمعركة في ليبيا.
التوصل إلى تسوية دائمة للصراع في ليبيا يحتاج ما هو أكثر من «توافقات الحد الأدنى» التي توصل إليها مؤتمر برلين، وفي مقدمتها إلغاء اتفاقيتي «أردوغان – السراج»، اللتين تمنحان شرعية التواجد لقوات تركيا ومرتزقتها، ووضع قواعد صارمة تمنع وصول الإرهابيين والمرتزقة من سوريا وتركيا إلى ليبيا، وسحب كل العناصر المتطرفة التي أرسلتها أنقرة بالفعل إلى هناك، وحل الميليشيات الموجودة في المناطق الخاضعة لحكومة الوفاق، لأن هذه الميليشيات تتناقض مع فكرة وجود الدولة الوطنية نفسها، ولكن ذلك لا يقلل من أهمية النتائج التي توصل إليها مؤتمر برلين، ومن أهمها تأكيد الدور العربي في رسم مستقبل ليبيا وتسوية أزمتها.
إن موقف الإمارات الذي أعلنه سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، أمام مؤتمر برلين، واضح لا لبس فيه، حيث أكد سموه أن دولة الإمارات تدعم تحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا الشقيقة القائم على عدم التدخل في شؤونها الداخلية، وإذا التزمت كل الأطراف بهذا النهج ستجد كل أزمات المنطقة طريقها إلى الحل.