مبادرات أكثر من محاضرات

جميل هذا الاحتفاء الذي شهدته دولة الإمارات باللغة العربية الأسبوع الماضي، وجميلة هذه الاحتفالات التي أقامتها الوزارات والمؤسسات والدوائر المختلفة في الدولة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية. وهو احتفاء ينم عن وعي وإدراك بأهمية اللغة العربية ودورها في تشكيل الهوية في المجتمع.

لكن الملاحظ أن هذا الاحتفاء ظل في دائرة المحاضرات والندوات التي يتحمس الجمهور خلالها للغة العربية، ثم ينصرفون منها ليجدوا واقعاً مختلفاً تماماً عما تحمسوا له، فلا بيئة التعليم تساعد على تعلم اللغة العربية، ولا سوق العمل يدفع إلى الاهتمام باللغة العربية، ولا المجتمع كله يشجع على استخدام اللغة العربية في التعاملات اليومية.

لهذا كان احتفاء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بهذا اليوم مختلفاً، إذ احتفل به سموه على طريقته الخاصة، فأطلق منهجاً دراسياً متكاملاً للغة العربية عبر موقع «مدرسة» يضم 1000 فيديو تعلــيمي لكل المراحل الدراسية.

وقال سموه في تدوينة نشرها عبر حسابه في موقع التواصل الاجتماعي تويتر: (بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية نطلق منهجاً دراسياً متكاملاً للغة العربية عبر موقع «مدرسة» يضم 1000 فيديو تعليمي لكافة المراحل الدراسية. موقع «مدرسة» الأكبر عربياً للتعليم الإلكتروني، واستفاد منه 60 مليون طالب خلال عام واحد. الحفاظ على اللغة العربية بحاجة لمبادرات أكثر من محاضرات).

منصة «مدرسة» التعليمية الإلكترونية هي نتاج تحدي الترجمة الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشـد آل مكتوم لتعريب 11 مليون كلمة من محتوى مناهج تعليمية متميزة عالمياً في تخصصات العلوم والرياضيات، بمشاركة متطوعين من مختلف التخصصات، كـخطوة أولى لتوفير محتــوى تعلـيمي نوعي باللغة العربية، ضمن آلاف الفيديوهات التعليـمية الشيقة، في متناول عشرات ملايين الطلبة والمعلمين وأولياء الأمور في العالم العربي.

وعندما يطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم منهجاً دراسياً متكاملاً للغة العربية في يومها العالمي، فهو إنما يؤسس بهذا لتعليم عصري حديث للغة العربية، يبطل حجة أولئك الذين يتهمون اللغة العربية بالجمود، ويشيعون أنها صعبة التعلم، ويعملون على تنفير أبنائها من تعلمها، بدعوى أنها لا تواكب العصر ولا تستجيب لمخترعاته الحديثة، غير مدركين أنهم بهذا يعملون على طمس هويتهم، لأن اللغة من السمات الأساسية للهوية، التي لا يمكن لأمة أن تحافظ على روحها إذا أضاعتها.

«مبادرات أكثر من محاضرات» منهج يختطه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في كل ما يطرحه من أفكار، وهو منهج يستمد قوته من كونه يبتعد عن الكلام والتنظير، ويعتمد الفعل طريقاً لتحقيق الغايات التي يظن البعض أنها صعبة المنال. فليس في قاموس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مستحيل، وليس في منهج تفكيره قول لا يصحبه عمل.

لذلك نتمنى أن تتحول جميع المحاضرات والندوات والكلمات التي أقيمت وألقيت في احتفالات اليوم العالمي للغة العربية إلى أعمال وحقائق على أرض الواقع، فلا نرى إعلاناً عن وظيفة من الوظائف بغير اللغة العربية، ولا نقرأ رسالة متبادلة بين إدارة وأخرى بغير اللغة العربية، ولا نتلقى تعميماً موجهاً إلى موظفي وزارة أو دائرة بغير اللغة العربية، ولا نجري مقابلة ترشحٍ لوظيفة من الوظائف بغير اللغة العربية، ولا نشاهد سوق عمل يفضل الناطقين باللغات الأجنبية على الناطقين باللغة العربية، لأن إقصاء اللغة العربية عن سوق العمل يصيبها في مقتل، فعندما تُقصَى لغة ما عن سوق العمل تفقد أهميتها لدى المتحدثين بها، لأنها لا تستجيب لمتطلبات حياتهم، فتتراجع إلى المراتب الخلفية من اهتمامهم ولا تصبح لها جدوى.

قبل سنوات تلقيت من إحدى المؤسسات التعليمية في الدولة دعوة لإلقاء محاضرة في ندوة تنوي تنظيمها حول «تطوير مناهج وأساليب اللغة العربية» تحت عنوان «لغتي هويتي». كانت الندوة تعقد بحضور كبار المسؤولين في مجلس التعليم بالإمارة التي تقع فيها المؤسسة التعليمية، ويشارك فيها حوالي 60 معلماً ومعلمة من القسم العربي بالمدارس التابعة للمؤسسة.

وقد أسعدتني الدعوة، ولكن أثار استغرابي أن برنامج الندوة كان مكتوباً باللغة الإنجليزية، عدا 15 كلمة فقط كانت باللغة العربية، والغريب أيضا أن العنوان الذي اقترحه منظمو الندوة لمشاركتي كان «حاضر ومستقبل اللغة العربية في سياق الإمارات الاجتماعي والثقافي». يومها لم أجد مثالاً لحاضر اللغة العربية ومستقبلها أفضل من هذا البرنامج فبدأت محاضرتي به.

لم أفكر يومها إن كان هذا سيسبب حرجاً لمنظمي الندوة من عدمه، لكنني لم أشأ أن أفوت فرصة هذا المدخل الذي قدمه منظمو الندوة لي على طبق من ذهب، وإن كنت أرفض الذهب والفضة والمعادن الثمينة كلها مقابل احترام لغتي العربية.

الشكر والتقدير لكل من احتفى باللغة العربية في يومها العالمي بجهد ولو كان يسيراً، لكن المحافظة على اللغة العربية بحاجة إلى مبادرات شبيهة بالمبادرة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله. وهي مبادرة سيكون لها أثرها على حاضر اللغة ومستقبلها إذا أحسن العرب استغلالها، وإذا استخدموها الاستخدام الأمثل الذي يليق بمكانة لغتهم وأهميتها.

 

 

الأكثر مشاركة