بريكسيت.. النهاية

ت + ت - الحجم الطبيعي

وصلت قصة «بريكسيت» إلى نهايتها بعد التصويت البريطاني الأخير لانتخاب مجلس عموم جديد يكون فيه للجمهور رأي واضح عما إذا كان واجباً الخروج من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه.

نهاية القصة كانت حصاد ثلاث سنوات تناوبت في رئاسة الوزارة ثلاث شخصيات: جيمس كاميرون الذي بدأ الرواية بقرار الاستفتاء على البقاء أو الخروج، وكان قرار الشعب هو الخيار الأخير بأغلبية بسيطة فتحت الباب لكثير من الحيرة والتخبط؛ وتيريزا ماي التي كانت مع البقاء، فسارت في طريق ناعم أو Soft Brexit فتخرج بريطانيا ولكنها تبقي على كثير من الروابط مع الاتحاد في شكل منطقة للتجارة الحرة، كانت رئيسة الوزارة تلغي الاتحاد الجمركي وتبقي حرية التجارة مع السوق الأوروبي الكبير؛ وبوريس جونسون الذي دفع في اتجاه الانتخابات لحسم الأمور بعد أن أعاد إنتاج اتفاقية تيريزا ماي في ثوب صلب.

ولكن القصة هكذا قصيرة للغاية، ولا يزيد مداها الزمني عن السنوات الثلاث أو الأربع السابقة عندما بدا الانقسام البريطاني محسوماً لصالح البقاء نظراً للفوائد الاقتصادية الجمة التي حصلت عليها بريطانيا من الاتحاد الذي دخلته عام ١٩٧٣ وهي على وشك الإفلاس، وها هي تخرج منه وهي تشكل الاقتصاد العالمي الخامس، بسوق عالمي بارز، وملتقى للاستثمارات العالمية الكبرى. ومع ذلك ربما تكون القصة أقدم من ذلك بكثير، حيث تعود إلى عام ١٩٥٤ عندما أعلن تشرشل رئيس الوزراء البريطاني التاريخي أولاً اعتراضه على فكرة الاتحاد الأوروبي التي بدأت تروج في الساحة الأوروبية، وكانت أول منتجاتها إنشاء التجمع الأوروبي للحديد والصلب الذي يجعل الحرب في أوروبا «مستحيلة».

وثانياً أن أوروبا عاشت مقسمة وسوف تظل كذلك، ومهمة بريطانيا أن تحافظ على توازن القوى بالانحياز ضد الطرف الأقوى سواء أكان فرنسا (في عهد نابليون) أم ألمانيا الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى أو الهتلرية في الحرب العالمية الثانية، لا فرق. وثالثاً أن مصير بريطانيا هو مع شقيقتها الأنجلو سكسونية الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يوجد التحالف الأطلنطي.

القصة على أية حال لم تكتمل بعد، فلا أحد يعرف بعد ماذا سوف يكون عليه الحال في بريطانيا لأن الاسكتلنديين الذين يريدون البقاء في الاتحاد الأوروبي شرعوا في الاستعداد للاستفتاء حول الانفصال عن المملكة المتحدة. على الجانب الآخر في الاتحاد الأوروبي فإن الخروج البريطاني سوف يشجع دولاً أخرى على الخروج هي الأخرى؛ فما نحن بصدده هو موجة عالية من التوجهات اليمينية التي تركز على «الهوية» والنزعات القومية والوطنية المناهضة للعولمة والاختلاط بين الأمم والثقافات.

ما يعقد المسألة أكثر أن أنصار «العولمة» خلطوا بينها وبين «المساواة» التي بدورها ولدت تحركات يسارية تطالب بسياسات راديكالية في نزعتها نحو الرعاية الصحية، وتأميم الصناعات والشركات، والتعليم المجاني.

فما حدث فعلياً في الانتخابات البريطانية أن الانتخابات جرت ليس فقط على الخروج أو البقاء في الاتحاد الأوروبي، وإنما أضيف لها الاستفتاء على السياسات اليسارية التي يقترحها حزب العمال، وزعيمه جيرمي كوربين الذي قاد حزبه إلى أكثر الهزائم التي عرفها الحزب في التاريخ ومعها جاءت النهاية للخلاف على «البريكسيت» فقد أصبح حقيقة واقعة. كان اليسار هو الذي دفع الرياح إلى أشرعة السفينة المغادرة للاتحاد الأوروبي.

هذه الآلية لليسار فاعلة أيضاً بشدة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقوم الحزب الديمقراطي بالدور الذي قام به حزب العمال في بريطانيا، وبدلاً من جيرمي كوربين يوجد إليزابيث وارين وبيرني سوندرز وكلاهما يريد سياسات تعليمية وصحية مماثلة لتلك البريطانية، مضافاً لها الدعوة لإقامة الادعاء في مجلس النواب على الرئيس دونالد ترامب، مع العلم يقيناً أن محاكمة الرئيس في مجلس الشيوخ سوف تجهض تماماً محاكمته، لأن الحزب الجمهوري له الأغلبية في المجلس الذي يتطلب أغلبية الثلثين حتى يمكن إدانة الرئيس.

الحزب الديمقراطي يسير معصوب العينين نحو الهاوية، ويعطي خصمه ترامب الطريق إلى أربع سنوات أخرى في البيت الأبيض. الأرجح هو أن هذه الحالة من الغباء السياسي لليسار سواء أكان في بريطانيا أم الولايات المتحدة ربما لن يكون مسألة أنجلو سكسونية، وإنما هي آليات الموجة اليمينية التي تنتشر في عالم اليوم التي لابد لها أن تأخذ عنفوانها خلال العقد المقبل.

 

ـــ كاتب ومحلل سياسي

Email