الأيديولوجية أو الدولة

ت + ت - الحجم الطبيعي

هنري كيسنجر، عالم السياسة وخبير العلاقات الدولية والسياسي المعتق، صاحب قول شهير يخص إيران، وهو أن على إيران أن تختار ما بين العقيدة السياسية أو الأيديولوجية والدولة. الاختيار هنا بين مفهومين جوهريين شائعين في السياسة العالمية بين الدول كما هو الحال في السياسات المحلية بين الأحزاب والتيارات والفواعل السياسية المختلفة.

لكن الاختيار هنا يقع على دول قائمة مثل إيران التي تتبنى أيديولوجية «ولاية الفقيه» التي هي من الناحية العملية مذهب لا يختلف كثيراً عن المذاهب التي حكمت دولاً من قبل من الشيوعية في أقصى اليسار إلى الفاشية في أقصي اليمين.

من ناحية، فإن مصير هذه الدول هو الانكسار والهزيمة، وفي الحرب العالمية الثانية انهزمت إيطاليا، وقُسّمت ألمانيا، وضُربت اليابان لأول وآخر مرة في التاريخ بالقنبلة الذرية.

وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفييتي استمر قرابة سبعة عقود، فإنه تفكك في النهاية إلى خمس عشرة دولة، ومن تبعه من الدول في شرق أوروبا لحقت سريعاً بأعداء تاريخيين للاتحاد المنحل مثل حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي.

الصين من بين الدول الأيديولوجية الكبرى هي التي بقيت وحزبها الشيوعي، ولكنه في مؤتمره التاريخي عام 1978 لم يعلن الحزب عن تخليه عن العقيدة الشيوعية، ولكنه عملياً وضع نفسه على الطريق إلى الرأسمالية واقتصاد السوق «الاجتماعي»، وأصبح الحزب الشيوعي حزباً لإدارة الدولة بكفاءة في ظل الظروف الخاصة للصين.

في منطقتنا العربية نعرف تماماً تجارب أيديولوجيا القومية العربية من الناصرية إلى البعث إلى طوائف مختلفة من «القوميين» العرب، في كل ذلك تعرض ناصر لضربة قاصمة في يونيو 1967، وسقط صدام حسين ومعه حزبه والدولة العراقية معه، وفي سوريا انتهى الأمر إلى تمزق وحرب أهلية، وكان ذلك ما تم أيضاً لحكم القذافي في ليبيا، وفي حالات معروفة كانت الأيديولوجية الدينية الخاصة بحزب الله هي التي قادت لبنان إلى المأزق الذي نراه الآن، وكان ذلك هو ما فعلته منظمة حماس في مجمل القضية الفلسطينية.

الأيديولوجية تعطي شعوراً زائفاً بالقوة، بقدر ما تضع غمامة على العين فلا ترى قوة الآخرين، وفي أحيان تكسب أيديولوجية بعينها صفات القداسة في دولة، وعلى الأغلب زعيماً ملهماً أو مرشداً لديه تفويض لا يقل عن الخلفاء وأمراء المؤمنين أو أئمة الشيعة الغائبين والحاضرين.

هي بعينها تعطي اعتقاداً بـ «الكمال» الفكري الذي يفسر التاريخ، ويعطي الأسباب في الحياة، وفي الكثير من الظروف تعطي الدوافع المقدسة لأهداف مستحيلة سرعان ما تصير طريقاً إلى الهزيمة.

الدولة على العكس من ذلك تماماً، لأنها تفترض عدم الكمال في البشر، وفي كل إنسان على حدة، ومن ثم فإن مجمع المؤسسات في الدولة هو العاصم من الزلل. الدولة لا تكون دولة إلا باعتراف العالم بها ومن ثم تصير جزءاً من مجتمع الدول التي يفترض فيها الانصياع طوعاً للقانون الدولي والتقاليد الدولية.

وعلى الرغم من أنه في كثير من الأحيان كانت «سيادة الدولة» متعارضة مع القانون الدولي، فإنه لا يمكنها عدم الانصياع، فهي لا تخرج عن قواعد الطيران الدولية، ولا طرق وأعراف تحديد المياه الإقليمية، ولا القواعد الخاصة بحركة الأموال والبنوك، وهكذا.

والشاهد هو أنه على الرغم من هذه التجارب التاريخية لفساد الأيديولوجيات، والحكمة المبتغاة من الدولة، فإن الواقع هو أن دولاً كثيرة لا تلبث أن تتلبسها أيديولوجيات تأخذ زعماءها وبلادها إلى الجحيم.

إيران هي المثال الحي على اختيار الأيديولوجية أو العقيدة السياسية، وليس صفات الدولة، ومن ثم فإنها حريصة على «التبشير» بالثورة والتغيير، وهي لا يهمها كثيراً المجتمع الدولي بقدر ما يهمها التحالفات مع جماعات أيديولوجية أخرى، ويبدو أن جماعة الإخوان هي الجماعة المفضلة بعد التفضيل الذي تلقاه جماعات شيعية من أحزاب الله، أو الحوثيين في اليمن.

الخروج الأخير للجماهير الإيرانية ضد الحكم وسياساته الداخلية والخارجية يشير إلى حالة اختيار الأيدلوجية على الدولة، حيث كانت ردود الفعل معبّرة عن الدولة «الشمولية» التي هي الدولة الأيديولوجية في لحظة عمّت فيها العيون تركيبة من الأفكار التآمرية في الخارج والداخل. ظهر ذلك في رد فعل القيادات الإيرانية لما حدث في الشارع، والقصة الإيرانية لم تنتهِ بعد!

 

ـــ كاتب ومحلل سياسي

Email