لبنان بين الفساد والطائفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

وضعت تظاهرات واحتجاجات اللبنانيين منذ السابع عشر من أكتوبر الماضي والمستمرة حتى الآن، لبنان بين اختيارات عديدة تتفاوت في تعقيدها وصعوبتها وقابليتها للتنفيذ الواقعي، أول هذه الخيارات فيما يبدو حتى الآن معالجة بعض أوجه الأزمة الناشبة في لبنان خاصة ما تعلق منها بانتشار الفساد ومحاكمة رموزه واسترداد أموال الشعب اللبناني وتحرير الدولة اللبنانية من سيطرة بعض رموزها، الذين يتحكمون في مفاصل الدولة والآليات التي تطبقها، أما ثاني هذه الاختيارات فيتمثل في التخلص من النظام الطائفي القديم، والنظر إلى الحاضر والمستقبل.

يعاني الشعب اللبناني من ضغوط الماضي الطائفي، وضغوط الحاضر، ولا شك أن الانتقال من الماضي إلى الحاضر، تكتنفه صعوبات عديدة؛ ذلك أن الثقافة المرتبطة بالنظام الطائفي لا تزال راسخة في وعي قطاع كبير من المواطنين والنخبة، كذلك فإن المصالح الأساسية للطبقة المستفيدة من النظام الطائفي مرتبطة باستمرار الوضع الراهن وإعادة إنتاجه، في حين أن ضغوط الحاضر والتي دفعت بقطاع كبير من اللبنانيين إلى التظاهر في الساحات، والتي يقدرها البعض بنصف الشعب اللبناني ويقدرها البعض الآخر بما يقارب ثلث اللبنانيين، تتمثل في يأس هؤلاء المواطنين من النظام الطائفي، وتطلعهم إلى نمط جديد للدولة اللبنانية يتمثل في الدولة اللبنانية الحديثة، التي تحقق المساواة بين مختلف أبناء الوطن بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية والدينية والعرقية، والحصول على الخدمات الحديثة التي تقدمها الدولة الحديثة المدنية لكافة مواطنيها، ونصيب عادل من الثروة الوطنية، فضلاً عن حقوق العمل والصحة والنظافة وما دون ذلك من الخدمات والحقوق التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من مهام الدولة الوطنية.

لقد أبرزت التظاهرات والاحتجاجات الشعبية تشخيص الحالة اللبنانية إلى حيز العلن والوجود، ونادت جهاراً نهاراً وبصوت عالٍ ما يقوله أغلبية اللبنانيين بصوت منخفض، وكذلك وضعت الاحتجاجات مساوئ الماضي القديم وتطلعها إلى مستقبل يأخذ في اعتباره مطالب اللبنانيين كبقية الشعوب في العالم، في دولة مواطنة بمقدورها أن تفي بمسؤولياتها إزاء المواطنين، دون تفرقة في واجهة المطالب الشعبية التي عبر عنها المحتجون في الداخل والخارج.

لقد أصبح النظام الطائفي عبئاً على اللبنانيين ومصدراً للفساد والثراء غير المشروع على حساب المواطنين؛ ففي مقابل الفقر وانخفاض قيمة الليرة والبطالة وسوء الأوضاع التعليمية والصحية لدى غالبية اللبنانيين، تطل رموز الفساد برأسها دون خجل أو حياء، فمن هذه الرموز من أنفق ما يقرب من 460 ألف دولار في إحدى المناسبات، ومن يمر في شوارع بيروت في موكب مهيب من السيارات الفارهة، فضلاً عن حجم الفساد الذي قدرته بعض الجهات الأمريكية بما يقرب من 800 مليار دولار منهوبة في الداخل والخارج، على امتداد الفترة من 1982 إلى عام 2019، سواء تعلق الأمر بالأموال اللبنانية المملوكة للدولة أو أموال المساعدات والمنح، وذلك بالطبع بالإضافة إلى الدين اللبناني الذي بلغ المئة والخمسين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وغالبية هذا الدين الحكومي من البنوك اللبنانية المحلية وتخصص الحكومة ما يقرب من 32% من النفقات الحكومية لسداد الفوائد، كما أن 43% من البنوك مملوكة لأشخاص مرتبطين بالطبقة السياسية.

أما الماضي أي النظام الطائفي في لبنان والمستقر منذ أربعينيات القرن العشرين بموجب الدستور اللبناني، فإنه يعيد إنتاج نفسه على مدار هذه العقود، ويحرص المستفيدون منه من الطبقة السياسية والنخب الطائفية على إنتاجه وإعادة إنتاجه، وكأنه «قدس الأقداس» أو وكأنه النظام الأمثل والطبيعي، والذي لا يمكن وضعه موضع الاتهام والمساءلة، وفضلاً عن شبكة المصالح المرتبطة بهذا النظام والتي تجمع بين النافذين فيه والمستفيدين منه، فإن استمرار هذا النظام وترسيخه أنتج ثقافة فرعية أو قطاعية تختزل المواطنين إلى مجرد أعضاء في الطائفة.

احتجاجات وتظاهرات اللبنانيين في الداخل والخارج تميزت بقدرتها على تجاوز حدود الطوائف، وعبور هذه الحدود، واستعادة القاسم الوطني المشترك، الدولة الوطنية بحكم التعريف والممارسة والفلسفة السياسية والقانون الدولي هي من تحتكر ممارسة العنف المشروع القانوني، في مواجهة الخارجين عليها، وذلك بناءً على تفويض من المجتمع ووفقاً للعقد الاجتماعي المكتوب أو الضمني بينها وبين جموع المواطنين والمجتمع، في الحالة اللبنانية تعيش الدولة اللبنانية ومنذ فترة حالة استثنائية وفريدة من نوعها؛ حيث لا تمتلك هذا الحق كاملاً، بل جزءاً منه لظروف معقدة وناجمة عن النظام الطائفي بثقافته وضعفه وقصوره.

خيار العلاج المؤقت الممكن عملياً أي حزمة من الإجراءات التي تكبح الفساد وتقدم رموزه للمحاكمة وتسترد أموال الشعب اللبناني وتشكيل حكومة جديدة تكنوقراطية أو على الأقل نظيفة اليد، وكذلك فك الارتباط بين الجهاز المصرفي وبين الطبقة السياسية لن يمثل علاجاً ناجحاً ما لم يترافق مع خطة إصلاحية تدريجية للنظام الطائفي تكفل الانتقال إلى الدولة الوطنية المدنية، خطة تجمع بين مبادئ وضرورة الإصلاح، وتجنّب مضاعفاته خاصة ما تعلق منها بالسلم الأهلي، وتحقيق توافق وطني حول تحرير لبنان من نفوذ القوى الإقليمية.

* كاتب ومحلل سياسي

Email