حرية الامتعاض

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاهدت قبل أيام، فيديو انتشر لمتظاهرين تعمدوا سد شارع رئيس مهم في نيويورك بحائط بشري، في محاولة للفت أنظار الناس إلى امتعاضهم من طريقة تعامل الناس والبلدان مع التغير المناخي العالمي.

وفي غضون ذلك، اندفع رجل يرتدي زياً رسمياً للأطباء، ليمزق لافتات المتجمهرين بصورة هستيرية، وحاول دفع ما أمكنه منهم بعيداً عن الطريق، في محاولة لاستعادة الشارع حركته.

وتخيلت ماذا لو كان ذلك التجمهر «غير الحكيم في اختيار موقعه»، قد أخّر ذلك الطبيب عن عملية جراحية حرجة، قد تودي بحياة نفس بريئة.

من حق البعض أن يبدي امتعاضه أو اعتراضه، لكن ليس من حقه تعطيل مصالح الناس متى شاء. وهذا ما قلته في تدوينة بحسابي في تويتر. الأمر الذي يجرنا إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أن بعض الناس ممن يتصدون لقضية مشروعة، قد يصبحون هم أول من يسيء إليها، لأن أصحاب القرار قد اختاروا أسوأ من يمثلهم.

فتجد نقابة عمال حول العالم، تختار ممثلين أبعد ما يكونون عن دبلوماسية أو ذكاء التفاوض. فبداعي إبداء التذمر أو الامتعاض، تجده يشتم أو يقذف أو يسب أمام عدسات الكاميرا الصغيرة والكبيرة. والأسوأ، حينما تأتي قناة معتبرة لتبث مثل هذا الهراء، لتزيد الطين بلة.

ورغم أنني كمتخصص في الإدارة، أرى أن من حق الموظفين، أو الناس عموماً، أن يعبروا عن آرائهم بالطرق المشروعة، غير أنه عندما يتعلق الأمر بتعطيل مسيرة حياة الناس أو الحي أو المدينة، أو تحطيم المتاجر، فهذا أمر غير مقبول. ومن هذا المنطق أتحفظ كثيراً على قضية الاضطرابات غير المدروسة، التي لا يسبقها نفس طويل جداً من النقاشات والمفاوضات البناءة.

ولذا، كنت، وما زلت، أتابع قضايا «إبداء الامتعاض» حول العالم بكل صورها، منذ بدايتها حتى نهايتها، ورأيت نموذجاً إيجابياً طبقته بعض النقابات، وهي التصعيد التدريجي. مثل نقابة العاملين في الخطوط الجوية البريطانية، التي لم تختر يوماً مزدحماً بالطيران لتطبيق أولى خطوات اعتصامها، ثم تدرجت حتى حصلت على «بعض» ما تريده.

المشكلة أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، وهذا يعني أن مظاهر الامتعاض لن تنتهي في كل أرجاء المعمورة. وهذا ما يحتم ضرورة حسن التعامل مع غضب تلك الفئات المتضررة بدافع بيئي أو إنساني أو اجتماعي أو مهني وغيرها.

فمن يقوم بترتيب «تجمهر الممتعضين» أو المتضررين، هو من يجب أولاً أن يضع الحكمة في المقام الأول، ويرسم سيناريوهات كل رد فعل متوقع للطرف الآخر.

والأمر نفسه يجب أن يحدث من الجهة أو المنظمة التي يطالبها الممتعضون بالالتفات إلى مصالحها أو مطالبها، فتختار خير من يمثلها بحكمته وقوته ومقدرته الفائقة على التفاوض. وفي عالم التفاوض، هناك تدرج وتكتيكات خفية، يلجأ إليها كلا الطرفين للوصول إلى حل مرضٍ للطرفين، أو منطقة مشتركة من القبول المشترك.

وهذا يعني أن المرء حينما يبدي امتعاضه، قد يتعاطف معه البعض، وقد يصل إلى مبتغاه، إذا استخدم الطرق الذكية في الحصول على مراده.

غير أن ضرب رأي الآخرين ومصالحهم بعرض الحائط، هو أسرع طريق إلى قلب الطاولة على قضيتك، التي تعتبرها عادلة.

وهذا ما يبرز الحاجة إلى وجود مرجعية واحدة يمكن التعامل معها، وليس حشود هائلة تقدم أطروحات متناقضة.

Email