العار البلغاري!

ت + ت - الحجم الطبيعي

العنوان مستعار من العديد من الصحف البريطانية التي لخّصت موقفاً من هتافات جرت في صوفيا البلغارية من الجمهور البلغاري ضد اللاعبين «السود» في فريق كرة القدم الإنجليزي في تصفيات لكرة القدم.

العنوان جرت استعارته لأنه لا عنوان آخر يلخص الحالة العنصرية التي تفشت في العديد من دول العالم ومنها دول في أوروبا الشرقية رفعت رايات اليمين المتطرف خلال السنوات الأخيرة.

بالطبع فإن الحالة العنصرية باتت منتشرة مع ارتفاع رايات اليمين في معظم الدول الغربية، والهتافات ذاتها جرت في دول أوروبية غربية مثل إيطاليا، كما أنها جرت في بريطانيا ذاتها.

ولكن في هذه الحالات الأخيرة فإن الجمهور العام استنكرها، كما أن رد الفعل لها في البيئة الثقافية والسياسية كان حازماً ورفضه قاطعاً.

في معظم دول أوروبا الشرقية كانت الحالة مختلفة، فإما كان هناك تبرير لما ليس له مبرر، أو أن نوعاً من التواطؤ الصامت جرى بين النخبة والجماهير.

جرى ذلك في دول عاشت مرحلة «اشتراكية» لقرابة خمسة وأربعين عاماً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

ولا يوجد في الاشتراكية أمر نبيل قدر الإعلاء من قيمة الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن اللون أو العرق أو الدين.

هذه الدول ذاتها عاشت مرحلة «الليبرالية» و«الديمقراطية» منذ انتهاء الحرب الباردة، وانتهاء الإمبراطورية السوفييتية في شرق أوروبا وحتى الآن، أي قرابة ثلاثة عقود؛ ولا يوجد في هذه المرحلة أيضاً إلا الإيمان بمبدأ المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان.

كيف إذاً بعد هاتين المرحلتين، والأيديولوجيتين، والتربية السياسية من أحزاب رفعت رايات الأخوة بين البشر أن تخرج الهتافات باللعنات والوصف بالقرود على لاعبين من أصول أفريقية ولكنهم يلعبون تحت راية الفريق الوطني لإنجلترا بحكم الجنسية والمواطنة والمولد.

التفسير الشائع لهذه الحالة العنصرية في بلغاريا، وكذلك في باقي دول أوروبا الشرقية خاصة بولندا والمجر، هو الصعود الساخن لتيار اليمين السياسي، الذي لم يعد تياراً يؤمن بحرية السوق والتقييد على دور الدولة في الاقتصاد أو المجتمع، وإنما دخل إلى مرحلة من التطرف القومي التي واكبت صعوده في عقود عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

هذا الصعود استفاد كثيراً من ضغوط تيارات الهجرة واللجوء الاقتصادي التي تولّدت عن الحروب الأهلية في أفريقيا والشرق الأوسط، والتي لعب فيها الاتحاد الأوروبي ودول شمال أوروبا وألمانيا خاصة دوراً في السعي من أجل التعامل معها بالاستيعاب أو بالتوطين في دول أخرى أو حتى حصرها في دول مثل تركيا مقابل معونات مالية.

ومما زاد الطين بلة أن هذه الموجات ارتبطت من ناحية بموجات مماثلة من الإرهاب والعنف والتميز الثقافي، الذي ظهر في هذه الدول في شكل تمايز عرقي أيضاً.

وعلى قدر ما في هذا التفسير من صحة فإنه ليس كافياً، فقد كان متصوراً أن المعاناة التي عاشتها دول أوروبا الشرقية أثناء الحكم الشيوعي والسيطرة السوفييتية؛ بل وتلك المعاناة التي عرفتها هذه الدول خلال الحرب العالمية الثانية، أن ذلك كله يخلق حالة من التفهم لمعاناة الآخرين الذين أتوا من جحيم الحروب الأهلية وسطوة الديكتاتوريات وإرهاب الجماعات الإرهابية.

فالحقيقة هي أنه لم يكن هناك فارق كبير بين ما جرى من نظم سلطوية وهيمنة جماعات مثل «بوكو حرام» في نيجيريا و«داعش» في سوريا عن ذلك الذي جرى إبان فترة الأسر الاشتراكية، ولا حتى إبان السنوات الأولى التي عاشتها هذه الدول بعد التحرر الاقتصادي.

الحالة البلغارية تفضي إلى القول إن المعاناة المشتركة لا تعني بالضرورة تعاطفاً مع من عاش معاناة أخرى، بل الأرجح أن من جرب الحالة يود أن يكون في مكان الآخر: الجلاد قاسٍ وعنصري.

الجمهور البلغاري بات يرى في الوجوه السوداء في فريق لكرة القدم تلك الجماعة من دول العالم الثالث التي أتت من أفريقيا وآسيا في صحبة الحكم الشيوعي الذي كان يحاول بناء إمبراطوريته على مدى الكون الواسع.

القصة اليمينية في بلغاريا ورفاقها من دول شرق أوروبا لم تصل إلى نهايتها بعد، والأعراض التي تظهر في مباريات كرة القدم ليست أكثر من مقدمة لما سوف يأتي من عنصرية!

Email