الكواكب كثيرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

نشأنا على عبارات ضخمة رنانة، وأقوال مأثورة متخمة بالطموح ومفعمة بالأحلام. تعلمنا في المدارس أصول كتابة موضوعات الإنشاء، ووجهنا معلمونا إلى ضرورة تزيينها بأبيات شعر تعضد المعنى وتقوي الأثر. واستكمل الإعلام المسيرة حيث محتوى اعتاد الغوص في أغوار أحلامنا وأعماق أمنياتنا التي جرى العرف أن تكون إما مُجهضَة أو مٌنهكَة أو مُنتَهكَة، وقد وصل الأمر لدرجة أن أجيالاً بأكملها اعتادت أجواء الإحباط، وتأقلمت وعوامل الإفشال. لكن، وعلى الرغم من أن منطقتنا العربية تقبع على صفيح ساخن يصل إلى حد الاشتعال، تسطع بين الحين والآخر نقطة ضوء تنبئنا بأن الحلم لم يعد مجهضاً بالضرورة وأن للأمنيات مسارات أخرى بخلاف الإحالة للتقاعد.

لم يكن أمامنا سوى إحالة مشاعر القلق والتوجس والتدبر فيما يحاك ويٌدبر لنا بشكل مكثف لتقاعد مؤقت حتى نحتفل ونحتفي بتحول جانب من الحلم إلى حقيقة وتفعيل جزء من الأمنيات ليصبح واقعاً.

يخبرنا الواقع أن المركبة «سويوز إم. إس 15» قد التحمت قبل أيام قليلة بمحطة الفضاء الدولية، وأنه جرى فتح مدخلي المركبة والمحطة لاستقبال ثلاثة رواد فضاء من روسيا وأميركا والإمارات، حيث انضموا لستة رواد موجودين على متنها. وبانضمام رائد الفضاء الإماراتي الشاب هزاع المنصوري للمجموعة تكون الإمارات العربية المتحدة قد حولت حلماً إلى حقيقة وأمنية إلى واقع. أصبح المنصوري رائد الفضاء العربي الأول الذي يزور محطة الفضاء الدولية منذ تشييدها في عام 1998.

هذا الإنجاز الضخم يأتي في زمن التحولات الإقليمية الرهيبة ورياح التغيير الشديدة ومحاولات إعادة رسم ملامح المنطقة رغماً عن أنوف سكانها تارة بصراعات مسلحة، وأخرى بفتن طائفية، وثالثة بحروب الجيل الرابع، وما خفي كان أعظم. هذه العواصف والأعاصير من شأنها أن تصيب أعتى شعوب الأرض بإحباط وكآبة وربما بلادة. لكن كلما ظهر بصيص نور أو طاقة ضوء، تعود الملايين، لا سيما الشباب لتتمسك بتلابيب الحياة والأمل.

الأمل الذي تبثه في نفوس الشباب والشابات في عالمنا العربي نماذج مثل اللاعب الدولي الموهوب الخلوق محمد صلاح، والمغامر عمر سمرة أول مصري يصل قمة إفرست، ومذيعة التلفزيون الجميلة الكفيفة رضوى، وغيرهم له مفعول السحر. وهو مفعول يفوق بمراحل عشرات الأغنيات الداعية للأمل، ومئات المقالات والبرامج التلفزيونية التي تدق على أوتار نبذ اليأس وزراعة الأمل. نموذج شبابي واحد يتواجد على الساحة بين وقت وآخر يداوي جروح الإحباط ويضخ فيتامينات الأمل. وحين يشاهد العرب شاباً عربياً إماراتياً ينقل العالم العربي كله، وليس الإمارات فقط، إلى الفضاء، وذلك عبر العلم والبحث وليس الدجل والنصب والاحتيال، فإن المشاهدة تتحول وقوداً للمضي قدماً رغم الصعاب.

لذلك حين يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي إن وصول رائد الفضاء الإماراتي هزاع المنصوري إلى الفضاء هو رسالة لكل الشباب العربي بإمكانية التقدم والتحرك للأمام واللحاق بالآخرين، فإنه يدق على أوتار يتوق إليها كل عربي.

ولعلها ليست مصادفة أن يحمل المسبار الذي صممه ونفذه شباب إماراتيون ليكون محطة الإمارات المقبلة في طريقها إلى المريخ اسم «الأمل». مشروع «مسبار الأمل» الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة قبل عامين يعني أن الأمل لم يعد محلقاً فقط، بل مبلوراً وقابلاً للتنفيذ.

تنفيذ هذه المهمة، التي تنقل العالم العربي بالصوت والصورة والفعل إلى الفضاء، وصفها العالم المصري الفذ رئيس مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأمريكية وعضو اللجنة الاستشارية لوكالة الإمارات للفضاء الدكتور فاروق الباز عبر رسالة وجهها إلى هزاع المنصوري قال فيها: «ربما أكون أسعد الناس برحلتك لأنني أعلم علم اليقين أن رحلتك تمثل أملاً لمؤسس دولة الإمارات الشيخ زايد، طيب الله ثراه».

وحين تصل العالم أخبار قادمة من منطقتنا العربية تختلف عما يحويه الشريط الخبري الراكض أسفل الشاشات حيث عدادات قتلى الصراعات، ومتابعات لتطورات الاحتقانات، وتصعيدات لمواجهات وتهديدات، وتلويحات بتأديبات واستعراضات لقوى وتوازنات، فإن هذا يعني أن العرب قادرون ليس فقط على مواكبة العصر والعلم والتطور والإبداع، بل مؤهلون للريادة.

لكن الريادة لا تتحقق إلا بتوافر العوامل والأجواء التي تحفزها وترعاها وتعمل على استدامتها وازدهارها. والحق يقال إن الإمارات دائماً تلهمنا في هذا الشأن. وأحياناً يكون الإلهام بمثابة الدواء المخفف للآلام، والماء الراوي للعطش. ملايين الشباب والشابات (والكبار أيضاً) في منطقتنا تواقون لرسائل طمأنة ومحاولات طبطبة لجروح عربية صارت مزمنة.

زمننا سريع الوتيرة، والسنوات في ظل تقنية المعلومات ووسائل الاتصال والتواصل ومنصات دعم الابتكار والإبداع أسرع بكثير من سنوات عصور مضت.

الأخبار الطيبة إذاً هي أن في الإمكان تعويض ما كان، إن لم يكن على ظهر هذا الكوكب، فالكواكب كثيرة.

* كاتبة صحافية

Email