الطريق الصعب لنظام عالمي جديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

استطاعت الدول الصناعية السبع الكبار في قمتها الأخيرة بفرنسا أن تتفادى الانقسامات، وأن تمرر القمة بسلام، وأن تمنع تكرار ما حدث في القمة السابقة بكندا، حين ترك الرئيس الأمريكي ترامب القمة ورفض التوقيع على قراراتها.

هذه المرة بدا الكل حريصاً على تمرير القمة وعدم إثارة المشكلات، لكن ذلك سلب القمة الكثير من فعالياتها، وبدا غريباً أن الدول التي تسيطر على معظم اقتصاد العالم تلتقي فلا تبحث جدياً في المخاطر التي تهدد العالم، وفي سبيل النجاة من أزمة اقتصادية يحذر الخبراء من أن بوادرها قد بدأت، ومن حرب تجارية تزداد مخاطرها، ومن كارثة مناخية يتهرب الكبار من مسؤولياتهم عنها وتكتفي القمة نفسها بتقديم 20 مليون دولار لمكافحة حرائق الأمازون.

كان لافتاً دور الرئيس الفرنسي ماكرون الذي استقطب الأضواء بلقائه مع الرئيس الروسي بوتين عشية القمة السباعية، أو بالوساطة بين واشنطن وطهران، أو بضمان مناخ هادئ لا ينسف القمة حتى وإن لم تخرج بقرارات يلتزم بها الأعضاء، لكن الأمر في النهاية ظهر وكأننا أمام لقاء فقد فاعليته أو مبرر وجوده واستمراره!!

ومن هنا كان الأهم في هذه القمة هو تلك التصريحات الكاشفة التي أدلى بها ماكرون مع ختام القمة والتي اعترف فيها بأن العالم يشهد أزمة غير مسبوقة في اقتصاد السوق، وأننا نعيش نهاية الهيمنة الغربية في العالم نتيجة الأخطاء التي تم ارتكابها على مر القرون الماضية، والتي أدت إلى عدم المساواة التي تهز الآن النظم السياسية، وتفرض أن يتم التفاهم بشأن أجندة عمل جديدة ونظام عالمي جديد.

تحذير ماكرون يأتي على خلفية واقع أوروبي صعب للغاية، أزمة «البريكست» وخروج بريطانيا ليست إلا أحد عناوين الأزمة التي تمتد إلى مخاطر تفكك الاتحاد الأوروبي، والسطوة المتزايدة لليمين المتطرف والتوجهات الفاشية والنازية، ثم الوقوع بين مطرقة روسيا من ناحية وسندان ترامب من ناحية أخرى، مع صعود الدور الصيني الذي بدأ يضع أوروبا نفسها ضمن مجال توسعه.

العالم يرى أن عهد القطب الواحد قد انتهى، وأن ما قيل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عن إمكانية هيمنة الغرب للأبد لم يعد له صلة بالواقع بعد أقل من عشرين عاماً، وأنه لا بديل عن نظام عالمي متعدد الأقطاب، وقادر على تحقيق نوع من العدالة للجميع ومعالجة أخطاء الماضي التي تمت في ظل أنظمة عالمية انحازت للأقوياء.

بينما يؤمن الجناح الحاكم في واشنطن بأن أمريكا يمكن أن تحتفظ بموقعها في قيادة العالم وأن تواجه بمفردها كل التحديات لهذه القيادة، إذا غيرت النظام العالمي الذي أوقع عليها الظلم(!!) حين حملها أعباء القيادة، وحين وضع قواعد اقتصادية استفاد منها المنافس الأعظم وهو الصين، وإذا فرضت واشنطن قواعد اللعبة الجديدة بمقاييسها ولمصلحتها فقط!!

والنتيجة. اندلاع الحروب التجارية التي تجاوزت المنافس الأهم «الصين» لتشمل الخصوم والحلفاء، والتي امتدت إلى التهديد بالخروج من اتفاقية تحرير التجارة العالمية لتصبح الإجراءات الحمائية هي سيد الموقف وخطر الركود هو «البعبع» الذي يخيف الجميع، ولتمتزج النزاعات الحمائية بتصاعد العنصرية والشوفينية بكل مخاطرها.

وسط كل هذه المخاطر يحلم الرئيس الفرنسي ماكرون باستعادة الحلم الأوروبي، رغم صعوبة ذلك مع الاعتزال المرتقب للمستشارة الألمانية ميركل ودورها الأساسي في استمرار ألمانيا كرافعة اقتصادية لأوروبا.

يدعو ماكرون لنظام عالمي جديد لن يكون إلا نظاماً متعدد الأقطاب، يراهن على أن روسيا سوف تنحاز في النهاية لأوروبيتها، وأن أمريكا سوف تتجاوز هذه المرحلة المضطربة التي تعمل فيها ضد الاتحاد الأوروبي وتشجع اليمين المتطرف على تفكيكه، وأن كلا من الصين وأمريكا سوف تجدان طريقاً للتعاون يجنب العالم ويلات صراع لا يحتمل.

ربما كان ما حدث في قمة السبع الأخيرة إعلاناً صامتاً بعجز النظام العالمي الحالي عن مواجهة التحديات الخطيرة التي تواجهها البشرية، لكن السؤال يبقى: كيف يتجاوز العالم بأمان فترة الانتقال إلى النظام الجديد، وكيف سيكون هذا النظام؟!

Email