في بيتنا مدرسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الذكرى السابعة والستين لقيام ثورة يوليو عام 1952، جدير بنا أن ننظر لهذا الحدث الكبير في تاريخ مصر المعاصر، من زاوية مختلفة تبتعد عن تقييم هذه الثورة من خلال الأفكار النظرية المجردة حول الاشتراكية ورأسمالية الدولة والبرجوازية الكبيرة أو الصغيرة، والتي فارق العديد منها الواقع، وربما حاول تطويعه بدرجة أو بأخرى للدخول في هذا أو ذاك من تلك التحليلات.

الزاوية التي أريد من خلالها النظر إلى ثورة 23 يوليو في ذكراها السابعة والستين، يمكن إدراجها ضمن ما يسميه علماء السياسة «السياسة من أسفل» أي عدم الاكتفاء بالنظر إلى التفاعلات السياسية في قمة النظام، بل في قاعدة المجتمع وامتداده العميق في المحليات والقرى والمناطق النائية والبعيدة عن الحضر والمدينة، تلك المناطق التي عانى أهلوها من النسيان والتهميش والتجاهل من قبل حكام ما قبل الثورة، رغم أن قاطنيها يمثلون نسبة معتبرة من سكان مصر المحروسة.

ولا شك أن هذه النظرة كفيلة بتوضيح تأثير قرارات يوليو وسياساتها، وامتداد هذا التأثير إلى محيط المجتمع الواسع وقاعدته العريضة؛ رغم بعد المسافة بين العاصمة مركز اتخاذ القرار وبين تلك المناطق، التي طالها التأثير.

في هذا السياق تنخرط قصة قريتنا «بني سعيد» الواقعة في أحضان الجبل وبحر يوسف في دائرة مركز أبو قرقاص محافظة المنيا؛ فتلك القرية النائية التي تقع في أعماق الوادي كانت تعاني عند قيام الثورة من الصمت والظلام، والعزلة؛ ما أن ينسج الليل خيوطه حولها، حتى تتحول إلى أشباح تهيم في الظلمات بالمعنى المزدوج لهذه الكلمة؛ أي ظلمة الجهل والأمية والتخلف، وظلمة افتقاد الكهرباء وغياب أي نظام بدائي أو تقليدي للإضاءة، في طرقاتها الضيقة، وما أن قامت ثورة يوليو عام 1952، حتى افتتحت في هذه القرية أول مدرسة ابتدائية مشتركة للبنين والبنات، ومن محاسن الصدف أن يقع الاختيار على الدور الأول من منزلنا الكائن في هذه القرية؛ ليكون مقر هذه المدرسة، والتي بدأت نشاطها التعليمي في سبتمبر عام 1952، ولما كنت في هذا التاريخ أبلغ من العمر ست سنوات أي سن الدخول إلى المدرسة، التحقت كغيري ممن هم في سني بهذه المدرسة، غير أني كنت محظوظاً بعض الشيء، حيث لم أكن مضطراً للسير لمسافات طويلة؛ كي أذهب إلى المدرسة، بل كنت أنتقل من الدور الثاني لمنزلنا إلى الدور الأول.

كان افتتاح هذه المدرسة صفحة جديدة في تاريخ القرية المذكورة، حيث خرجت عن صمتها الذي كان يلفها طيلة الوقت، كما كسرت حواجز العزلة والانطواء والركود، وفضلاً عن ذلك فقد دخلت عصر التعليم الحديث والتربية الوطنية.

ترتب على افتتاح هذه المدرسة أن وفد إلى القرية بعض المدرسين والأساتذة الأوائل من المدن المختلفة، وتعايشوا واحتكوا بمجتمع القرية وأولياء الأمور على نحو خاص، وبعد أن كان هؤلاء الوافدون يأتون إلى المدرسة من مقار إقامتهم بالمواصلات العامة القليلة في ذلك الوقت، أو يأتي بعضهم بوسيلة خاصة «البيسكليت»، فضل أولئك وهؤلاء من الأساتذة السكن في القرية، وعندما قرروا ذلك، لم يعيشوا كغرباء أو معزولين، بل خالطوا الأهالي وعاشوا معهم وشاركوهم أحاديثهم واجتماعاتهم، وقاموا بمبادرات لإضاءة القرية من خلال «الفوانيس» التي نصبت في الشوارع الضيقة، وكذلك إعادة بناء المسجد المتهالك في القرية وغير ذلك من المبادرات، التي عمقت التفاعل بين المدرسين وبين مجتمع القرية، وشارك الجميع بالحماس نفسه في هذا النمط الجديد للتفاعل بين مجتمع القرية التقليدي وبين المدرسين الذين ينتمون إلى المجتمع المديني والحديث.

لم تقتصر مهمة المدرسة على تعليم الملتحقين بها من الأطفال بل امتد النشاط التعليمي لمحو أمية الكبار بمبادرة أخرى وأقيمت فصول محو أمية مسائية لهؤلاء، لتعليم القراءة والكتابة.

إن تقييم أي ثورة لا يقتصر فقط على هوية من قام بها أو حركها ولا ببرنامجها الاجتماعي ولا بالشعارات التي ترفعها، بل كذلك بقدرة الثورة على إحداث تغيير جذري في عمق المجتمع، وقدرتها على أن يصل هذا التغيير إلى أبعد مدى وهو ما فعلته ثورة 23 يوليو عام 1952 والتي نسترشد بالقيم والمبادئ التي تمسكت بها ودافعت عنها حتى الآن.

* كاتب صحافي

Email