روسيا في «الحديقة الخلفية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأزمة الجارية اليوم في فنزويلا ربما بسبب تفردها ستكون، على الأرجح، من أهم المؤشرات الدالة على شكل النظام العالمي، الذي لا يزال في طور التشكل.

فلا شك أن أغلب المراقبين والباحثين يجمعون اليوم على أن النظام الدولي الذي تشكل بعد نهاية الحرب الباردة يتلاشى منذ فترة، مفسحاً الطريق أمام نظام عالمي جديد لا يزال في طور التشكل، فبعد الحرب العالمية الثانية، تشكل نظام دولي قام في جوهره على الحرب الباردة بين دولتين عظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

وفي ظل ذلك النظام لم يكن بالإمكان تحليل أغلب القضايا والصراعات الدولية دون فهم آليات الصراع بين الدولتين في عالم ثنائي القطبية، ثم انهار الاتحاد السوفييتي، فصارت الولايات المتحدة، في العقد الأخير من القرن العشرين، القوة العظمى الوحيدة في العالم.

لكن الولايات المتحدة تربعت على ذلك العرش، مستفيدة من مؤسسات وهيئات كانت قد أسهمت بشكل محوري في إنشائها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لضمان مصالحها، بدءاً بحلف الأطلنطي، الذي قامت بتوسيع نطاقه ليشمل أغلب دول حلف وارسو، ومروراً بصندوق النقد والبنك الدولي، ووصولاً لاتفاقية الجات التي تحولت لمنظمة التجارة العالمية عام 1995. وقد ساعدت تلك المنظومة الدولية كلها الولايات المتحدة بقوة طوال العقود الماضية.

لكن التدخل العسكري الأمريكي في بقاع شتى حول العالم والتزايد المذهل في الميزانية العسكرية، بالتزامن مع خفض مطرد للضرائب، أدى لتراجع أمريكي نسبي حتى داخل أمريكا نفسها، وهو ما تزامن مع صعود عسكري للعملاق الصيني، وتزايد مطرد لرغبة روسيا في العودة بقوة للساحة الدولية خصوصاً لمنافسة الولايات المتحدة في المجالين الجيواستراتيجي والعسكري. ولا يقل أهمية عن كل ذلك تعددية المراكز الاقتصادية الكبرى حول العالم من ألمانيا واليابان للصين.

ويأتي ما يجري الآن في فنزويلا في هذا السياق، فالأزمة التي تشهدها فنزويلا اليوم منذ إعلان خوان غوايدو نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد واعتراف أكثر من خمسين دولة به، واستمرار مادورو في الحكم، يمثل في تقديري، أحد تجليات النظام العالمي الجديد الذي يتشكل، فقد صارت فنزويلا محط صراع علني بين الولايات المتحدة من ناحية وكل من روسيا والصين من ناحية أخرى.

وقد كان آخر حلقات ذلك الصراع العلني هو الحرب الكلامية التي خاضتها أمريكا وروسيا الأسبوع الماضي عشية وصول طائرات عسكرية روسية لكاراكاس، فالحكومة الفنزويلية كانت قد أكدت صحة التقارير الصحفية التي أعلنت وصول طائرتين حربيتين روسيتين وعلى متنهما أكثر من مائتي جندي روسي.

فضلاً عن 35 طناً من المعدات العسكرية. ورغم أن هذه ليست المرة الأولى التي تهبط فيها طائرات عسكرية روسية على الأراضي الفنزويلية، إذ حدث الشيء نفسه في ديسمبر الماضي، تظل وقائع الأسبوع الماضي هي المرة الأولى منذ إعلان غوايدو نفسه رئيساً، واعتراف أمريكا وحلفائها به.

وقد تجلى الصراع بين روسيا وأمريكا في الاتصال الهاتفي المشوب بالتوتر الذي أجراه وزير الخارجية الأمريكي مع نظيره الروسي، والذي قاله له فيه إن الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها الإقليميون «لن تقف مكتوفة الأيدي بينما روسيا ترفع من حدة التوتر في فنزويلا».

وقد نقلت وكالات الأنباء عن وزير الخارجية الروسي قوله لنظيره الأمريكي، في تلك المحادثة، إن بلاده ترفض المحاولات الأمريكية لتنفيذ «انقلاب» في فنزويلا، بما يمثل «تدخلاً سافراً في شؤون دولة ذات سيادة».

وكان وزير الخارجية الأمريكي قد انتقد علناً ما أسماه «بالسلوك غير البنّاء» لموسكو في الأزمة. ورداً على الاتهامات الأمريكية، أعلن الكرملين أن «وجود خبراء روس على أرض فنزويلا يأتي بناءً على اتفاق للتعاون العسكري والفني مبرم بين حكومتي البلدين وموقع منذ عام 2001».

والحقيقة أنه في بداية أزمة فنزويلا كانت الولايات المتحدة قد سعت دون جدوى للضغط على روسيا لقطع علاقاتها مع نظام مادورو، ولا تزال روسيا، ومعها الصين، هي أكبر داعم لنظام مادورو.

أما التفرد الذي تتسم به أزمة فنزويلا بالمقارنة بغيرها من الأزمات الدولية التي صارت تلعب فيها روسيا دوراً مهماً هو أن أمريكا اللاتينية ظلت حتى قبل الحرب الباردة خطاً أحمر بالنسبة للولايات المتحدة، ترفض أي تدخل دولي فيها، فمنذ مبدأ الرئيس جون مونرو في عام 1823، اعتبرت الولايات المتحدة أن أمريكا اللاتينية هي منطقة نفوذها التي حذرت القوى العالمية من التدخل فيها، لأنها «حديقتها الخلفية»، ورغم ما في «الحديقة الخلفية» من علاقة ونفوذ، فإنها تجسد الطريقة التي طالما رأت الولايات المتحدة بها علاقتها بدول ذات سيادة، لذلك فإن مصدر التفرد هنا هو أن روسيا تتحدى ذلك المبدأ الأمريكي، الذي لا يزال، ضمنياً، هو الحاكم لسياسة أمريكا تجاه أمريكا اللاتينية.

ومن هنا، فإن ما ستسفر عنه أزمة فنزويلا سيكون من أهم المؤشرات الدالة على طبيعة النظام الدولي الناشئ وطبيعة أدوار القوى الكبرى فيه.

* كاتبة مصرية

 

Email