معضلة كارلوس غُصن.. ماذا نستفيد منها؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

السقوط الكبير من على قمة جبل فوجي الياباني، والتدحرج نحو الهاوية العميقة من بعد اعتلاء عروش شركات السيارات الكبرى، هذا ما حدث مع كارلوس غُصن الذي وصل إلى قمة كل شيء: المال، الحنكة الاقتصادية، قوة اتخاذ القرار، وصناعة المجد، وبعد ذلك كله جاء السقوط المدوي.

كارلوس غُصن هو رجل أعمال من أصل لبناني، يحمل الجنسيتين البرازيلية والفرنسية، عمل في بداياته مع «مشيلين لصناعة الإطارات»، ومن ثم شركة رينو الفرنسية لصناعة السيارات، وكان له الأثر الكبير لقيادة دفتها نحو النجاح بعد أن عصفت بها العديد من الأزمات، ومن ثم حلّق كارلوس شرقاً نحو بلاد الشمس المشرقة، اليابان، وكتب هنالك أجمل قصص نجاحه مع شركة نيسان العملاقة لصناعة السيارات، حيث تولى إدارتها وهي تعاني من ويلات الديون المتعثرة، التي وصلت إلى 30 مليار دولار بحسب المصادر.

وقد لمع نجم كارلوس غُصن بعد أن نقل رينو من الخسارة إلى الربح في وقت قياسي، فقد تولى مسؤولية الشركة في فرع أميركا الجنوبية سنة 1996 وبدأت بوادر التعافي تظهر مع إدارته سنة 1997، ومن ثم ارتحل نحو نيسان التي كانت مثقلة بالديون، وحملت هذه الرحلة في طياتها العديد من الإنجازات العظيمة لكارلوس على مستوى الشركة وعلى المستوى الشخصي له.

وبعد هذه النجاحات الكبيرة جاءت الفرص لكارلوس غُصن من كل الاتجاهات، فقد عرض عليه رئاسة العديد من الشركات، كشركة أفتوفاز الروسية لصناعة السيارات، وشركتي جنرال موتورز وفورد الأمريكيتين، ولكل شخص اعتباراته ونظرته للأمور، فقد رفض غُصن العرض الأمريكي وقبل العرض الروسي، وبالفعل تم تعيينه على رأس الشركة الروسية، وأسهم تولي غصن لمناصب عدة إلى ظهور تحالفات بين الشركات التي تتبعه كتحالف نيسان رينو، بالإضافة إلى التحالف مع الشركة الروسية، والتحالف مع ميتسوبيشي بعد أن تولى منصب رئيس مجلس إدارتها.

وبعد أن توالت قصص النجاح حتى على الصعيد الشخصي، بعد ذلك كله وتحديداً في 19 نوفمبر 2018 تم القبض على ملك صناعة السيارات كارلوس غُصن بتهمة الفساد المالي، ونزل بأمر الحكومة اليابانية من على عرش شركة نيسان إلى زنزانة انفرادية ذات ظروف صعبة لا توائم الأثرياء أمثال غُصن.

وبعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، يظهر كارلوس غُصن في أولى محاكماته وقد خسر مالا يقل عن 10 كيلوغرامات من وزنه، ظاهرة عليه علامات الإعياء والتعب الشديد بسبب ظروف سجنه الصعبة، وقد تم توجيه تهم له بالتهرب الضريبي واستغلال أموال الشركة لمصالح شخصية.

وقد تم تداول العديد من التفاصيل والتي لا نعلم مدى صحتها كظروف سجنه ونومه على حصيرة على الأرض، وعدم قدرته على النوم بسبب الإضاءة الدائمة في زنزانته، بالإضافة إلى تداول أن التحقيق الأولي تم في الشركة نفسها بعيداً عن نظر كارلوس غُصن، وأن من قدم الأدلة للجهات الأمنية اليابانية حول سوء السلوك المالي لرئيس الشركة كان من قبل أقرب المقربين لكارلوس.

وبعد تسارع الأحداث المثير للدهشة حقيقة، وبعد كل ما أثير عن قضية الفساد المالي، وبغض النظر عن إثبات التهم الموجهة لكارلوس غُصن من عدمه، يتوجب علينا هنا أن نسأل السؤال الأهم، وهو: ما هي التدابير التي وضعتها الحكومات على وجه الخصوص وإدارات هذه الشركات عموماً للحد من التلاعب المالي بأموال الشركة؟ وما هي سياسة وزارات الاقتصاد نحو قادة الأعمال والتجارة من الذين أكملوا سنوات كثيرة على رأس عملهم وخصوصاً مدراء الشركات الكبرى ذات الموازنات المليارية حول العالم؟ وما هي الإجراءات الاحترازية لمنع استغلال أموال المساهمين حتى مع أكثر الشركات نجاحاً وأكثر المدراء إلهاماً؟

في معرض التعليق على قضية غُصن نؤكد أن الجميع سواسية أمام القانون ويجب أن تحترم أي دولة وقوانينها سواء من المواطنين أو من المقيمين على أرضها من فئة العمالة وغيرهم، كما أن النجاحات المتواصلة لا تشفع لأصحابها بأن يتلاعبوا بأموال الشركة، والتي هي بالأساس أموال المساهمين وعائلاتهم ممن وضعوا أموالهم في يد إدارة الشركة لتتضاعف وتعود عليهم بالربح.

ثانياً: نرى أن على الحكومات أن تتخذ تدابير مشددة لمراقبة السلوك المالي للرؤساء التنفيذيين للشركات الكبرى، ويكون ذلك عن طريق وزارات الاقتصاد في هذه الحكومات، كتخصيص إدارة ضمن الوزارة أو جهاز رقابي للبحث والتنقيح في السلوك المالي والضريبي والإداري لجميع الرؤساء التنفيذيين ممن تزيد قيمة شركاتهم في السوق على المليار دولار، ويكون ذلك عن طريق المراجعة المحاسبية والزيارات الدورية للشركات والتدقيق بالنتائج المالية، ومتابعة تضاعف الثروات الشخصية للتنفيذيين والتدقيق في المكافآت السنوية لكبار التنفيذيين ومدى تأثيرها على ربح الشركة، وهل هي معقولة بما يتناسب مع ربح صغار المساهمين أم مبالغ بها؟

ونقول إن ما حصل لكارلوس غُصن يجب أن يكون بداية جديدة للتعامل مع الشركات الكبرى والشركات متعددة الجنسية، وسن القوانين وإنشاء أجهزة رقابية تدقق في جميع التفاصيل سواء تفاصيل عمل الشركات المساهمة أو طريقة عمل رؤسائها التنفيذيين.

Email