يهود أميريكا وإسرائيل.. من يغيّر من؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

باستثناء الجماعة الأميركية اليهودية، البالغة نحو 5.7 ملايين نسمة، أوشكت الخزانات البشرية اليهودية الكبرى في العالم؛ المرشحة الدائمة لتغذية إسرائيل بالمستوطنين، على النفاد.

ويبدو أن هذا المشهد هو أحد أهم بواعث نقاش الأوساط الصهيونية؛ الذي يظهر ويخبو بوتيرة متقطعة، بشأن مستقبل هذه الجماعة ولاسيما مواقفها وتوجهاتها من الهجرة إلى إسرائيل.

سياق التناظر بهذا الخصوص، يفصح عن رأيين يلتقيان، من ناحية على ضرورة تشجيع مغادرة الأميركيين اليهود إلى إسرائيل، التي أعلنت أخيراً عن هويتها الدينية اليهودية، وبسط سطوتها وقوميتها على اليهود وتمثيلها لهم أينما كانوا.

ولكنه يكشف، من ناحية أخرى، عن خلاف فارق بين المتجادلين حول أسباب الهجرة في المرحلة الراهنة، وكذا حول انعكاساتها وتداعياتها، حال تحققها، على سيرورة الاجتماع السياسي للدولة من الداخل وعلى سياساتها وصورتها الخارجية.

مثلاً، تعتقد مور التوشلر (هآرتس 13/‏11/‏2018) أنه حان الوقت الذي يجب فيه على يهود العالم الغربي، ولاسيما في الولايات المتحدة، التوقف عن إيمانهم وقناعتهم الساذجة بالمبادئ الليبرالية الإنسانية العالمية العابرة للقوميات، لصالح الاهتمام بخصوصية «القومية اليهودية»؛ التي تجسدها الصهيونية وتتمركز في إسرائيل.

وهي توصيهم بالهجرة إلى هذه الدولة، لأنهم لم ولن يتمكنوا من إنجاز هدفهم، المثالي بزعمها، الرامي لإصلاح المجتمعات غير اليهودية التي يعيشون فيها، بروح الحرية والعدالة والمساواة، معتبرة أن هذه المثل لن تتوفر لهم إلا في إسرائيل.

من جانبه، ينكر دمتري شومسكي (هآرتس 21/‏11/‏2018) صوابية هذا التصور، ويدفع بأن إسرائيل الحالية «تجسد في هيئتها وسلوكها القسمات العرقية الوطنية المتطرفة؛ التي اشمأز منها الصهاينة الأوائل. إنها الآن مثابة للظلاميين والعنصريين والقوميين المتشددين المعجبين ببنيامين نتانياهو وهو معجب بهم».

وبناءً على هذا التكييف، يدعو شومسكي الغربيين اليهود للهجرة إلى إسرائيل، ليس لاتخاذها ملاذاً من التطرف المتفاقم في مجتمعاتهم، وإنما لأنهم «يشكلون في جزء كبير منهم، وبخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا، أحد المعاقل الأخيرة لقيم الديمقراطية الليبرالية. ولديهم طبقة من المثقفين تظهر موقفاً شجاعاً ومثابراً ضد القومية المتطرفة والشعبوية الجديدة لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب».

من التأمل عميقاً في رؤية شومسكي، نراه يؤمن بأن إسرائيل اليوم حادت، على أيدي نتانياهو وبطانته، عن الطريق الذي خطته أعمال الصهاينة المؤسسين. أولئك الذين أرادوها، حسب ادعاءاتهم «دولة للتسامح والليبرالية الحقة والعدالة؛ التي فشلت الشعوب الأوروبية في تطبيقها بسبب القوميات المتطرفة واللاسامية».

وعليه فإن يهود الغرب الذين سيفدون إلى إسرائيل سوف يساهمون في إقالتها من عثرتها، وذلك بالتدفق إلى صناديق الاقتراع بما يسقط حكم اليمين، وتطهير وعي الإسرائيليين من الخلطة الملوثة ومرض الاحتلال والاستيطان، وإصلاح الأضرار التي أصابتهم أخلاقياً وسياسياً.

نحن هنا إزاء تقدير شديد الخبث. كونه يفترض أن الصهيونية نشأت عن أفكار وقيم مثالية واتجهت إلى تطبيقها عبر كيان طهراني؛ ولكنها انحرفت عن الطريق القويم بأفعال زمرة من المتشددين، يقودهم نتانياهو والذين معه.

وأن بقايا الليبراليين اليهود في عالم الغرب، يمكنهم إقالة هذه العثرات والاعوجاجات الطارئة، بعد هجرتهم إلى إسرائيل. والحق أن هذا التحليل ينبني على مقدمات خاطئة ويصل إلى استنتاجات تنحدر إلى مهاوي الخطيئة.

ليس هنا مقام التفصيلات، ولكن الثابت يقيناً أن الصهيونية نشأت عن بواعث عنصرية انعزالية، وحاربت منذ نعومة أظافرها كل دعوة، يهودية كانت أم غير غير يهودية، لاندماج اليهود في مجتمعاتهم ومواطنهم الأم، أو للنضال الحقوقي والديمقراطي داخل هذه المجتمعات والمواطن.

الثابت أيضاً، أن النخب الصهيونية الحاكمة والمهيمنة في إسرائيل منذ قيامها، لم تتحدر في معظمها سوى من أولئك الذين اشتكوا من الاضطهاد في عالم الغرب، وأنهم وورثتهم اضطلعوا بأنفسهم باضطهاد الشعب الفلسطيني وإنكار وجوده وحقوقه الفردية والوطنية الجمعية. والمعني، أن نتانياهو وأركان حكمه ليسوا غير ممثلين أمناء للمثل الصهيونية في تجلياتها النظرية والتطبيقية.

أهم من ذلك مدعاة للاعتبار، أن الصهيونية وكيانها السياسي، كانت لها القدرة دوماً على تكييف المهاجرين المستوطنين الجدد، وفقاً لأهوائها، بأكثر بكثير من قدرتهم علي تغييرها.

وعطفاً على المعلوم بالضرورة والخبرة من أن الأميركيين اليهود يستحوذون على نفوذ لا يبارى في أروقة السياسة وصناعة القرار في واشنطن، فلم لا يتم نصحهم باستخدام سلطانهم هذا لتقويم السياسة الإسرائيلية وهم هناك، عوضاً عن الهجرة إلى بلاد الفلسطينيين المحتلة؟

Email