عين على غزة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما تتوالى حلقات المسلسل الفلسطيني الطويل، تحت عنوان البحث عن المصالحة الوطنية بين فرقاء الأيديولوجيا والسياسة من جانب، ومقاومة التوحش الإسرائيلي من جانب آخر، تتدهور أحوال الناس في قطاع غزة إلى الحضيض.

مضى على تفاقم الشق الوطني الذاتي من هذا المسلسل أكثر من أحد عشر عاماً، من دون أن يستشعر أبطاله ومشايعوهم الملل. أما جمهور المتابعين فيتوزعون بين أعداء شامتين، يفركون أيديهم طرباً لما يجري ويصبون على نيرانه زيتاً، ويستخدمونه في تبرير جرائمهم، ومنها الادعاء بعدم وجود شريك فلسطيني يمكن إبرام التسوية معه، وبين أصدقاء مغتاظين ومشفقين مما ألحقه الفلسطينيون بأنفسهم، ولكن أغلبهم يكتفون بحض الفلسطينيين على نبذ القطيعة والخلاف، وبين ملح الأرض من الفلسطينيين، ولا سيما أهل قطاع غزة الذين يدفعون جراء هذا الاستعصاء والاكتواء أثماناً وفواتير باهظة الكلفة من أرواحهم وأعمارهم وأقواتهم وأمنهم وعافيتهم البدنية والنفسية، وقبل ذلك وبعده من حقوق قضيتهم الوطنية.

هؤلاء الأخيرون هم الذين تأكلهم الحسرة ويتجرعون المرارة مما آلت إليه أحوالهم التي تتدحرج من السيئ إلى الأسوأ إلى الأكثر سوءاً واسوداداً. يقول البنك الدولي في أحدث قراءاته التفصيلية لاقتصادات غزة إن فرداً من كل اثنين هناك يعاني من الفقر، فيما يعيش ثلث سكان القطاع بكاملهم في دائرة الفقر المدقع، الذي يعني الحياة تحت ما دون حد الكفاف وافتقاد معظم الحاجات الأساسية للآدميين.

ويدعم هذه الوضعية معدل بطالة يكبل 70% من الغزاويين (1.912 مليون نسمة)، علماً بأن هذا المعدل هو الأعلى عالمياً، وبخاصة لدى الشريحة العمرية الواقعة بين 20 و29 عاماً، التي تضم معظم الحاصلين على مؤهلات مراحل التعليم المتوسطة والجامعية.

يعلل التقرير الدولي هذا المشهد المقبض بتقليصات المعونات الأجنبية، الأميركية بالذات التي تتراوح بين 50 و60 مليون دولار سنوياً، وتخفيضات برامج وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، ويرى أن المعونات الخارجية وإسهامات المانحين لم تعد تكفي للتعويض ووقف هذا الخراب الاقتصادي المطرد.

التقرير صدر قبل بضعة أسابيع، وقد ضاع صوته وغابت أصداؤه بفعل انشغال الأجواء العربية والإقليمية والدولية بهموم وقضايا أخرى، لكنه فتح شهية المختصين من أبناء غزة للحديث عن معالم اللعنة الاقتصادية، التي يراوحون فيها منذ عشرة أعوام، والتقت عليهم خلالها مطارق الاحتلال واعتداءاته الدموية الموسمية مع سنادين الانقسام الوطني: فالعام 2017 إضافة إلى ما انقضى من 2018 هما الفترة الأصعب على مدار العقد الماضي، حتى إنه لم يعد يشتغل فعلياً سوى عشرة آلاف عامل من أصل 25 ألفاً كانوا يعملون قبل العام 2008، ذلك جراء نقص الطاقة الكهربائية وضمور السيولة المالية وضعف القوة الشرائية للسكان وإغلاق أبواب التصدير، ومنع استقبال أصناف كثيرة من المواد الخام والمعدات وقطع غيار الماكينات الإنتاجية، وطول قائمة السلع والبضائع الممنوعة من التداول.

هذا ينطبق على صناعة النسيج والملابس والصناعات الغذائية، وقل مثل ذلك عن كل الأنشطة الاقتصادية.

يسترعي الانتباه بالخصوص أن اقتصاديي غزة، على صعيدي الفكر والحركة، يشاركون البنك الدولي رأيه القائل بضرورة اتباع نهج متوازن في معالجة الأزمة «يزاوج بين التدابير الفورية وبين اتخاذ خطوات لإيجاد بيئة مواتية للتنمية المستدامة.

ومن التدابير العاجلة ضمان استمرار الخدمات الأساسية مثل الطاقة والمياه النقية والصرف الصحي والرعاية الصحية، علماً بأن لهذه الخدمات (المنهارة بشكل مروع راهناً)، أهمية بالغة لمصادر كسب الرزق للسكان وللاقتصاد عموماً كي يعمل ويؤدي وظائفه».

وضمن وصفة العلاج لانتشال غزة من براثن البؤس الاقتصادي الممتد، ينصح الناصحون بتوسيع منطقة صيد الأسماك المسموح بها للسكان إلى عشرين ميلاً، ورفع القيود الإسرائيلية على التجارة، والسماح بحركة الناس والسلع، وضمان الحكم للمؤسسات الفلسطينية الشرعية على نحو يتسم بالشفافية والكفاءة.

لا تنطوي هذه الوصفة على أي جديد خارق للناموس، فهي وأصحابها لا يقولون غالباً إلا مكروراً أو معاداً. ومنها ومن الوصفات المماثلة، نفهم مجدداً أن كلمة السر للانعتاق وكسر هذا المسلسل المحزن تتعلق ابتداء وانتهاء بالسياسة: كسر الحصار الإسرائيلي من ناحية، وإبرام المصالحة الوطنية الفلسطينية من ناحية أخرى.

Email