«مدرسة» للإنقاذ

ت + ت - الحجم الطبيعي

كم الأقوال المأثورة عن المدرسة ضخم جداً. فهي التي تخرج المرء من الظلمة إلى النور، وهي التي تحارب الأخلاق السقيمة وتزرع القيم النبيلة، وهي التي تعد شعباً طيب الأعراق، والأقوال لا تنتهي.

لكن ماذا لو كانت الشعوب قد تعرضت للتفتيت والتشتيت والتشريد؟! وماذا لو كانت الظُلمة قد تمكنت من ثقافات وحضارات على مدار سنوات من التجريف والتحريف والتسويف؟! وماذا لو كانت المؤامرات والمخططات لم تٌجهِز على الأخلاق السقيمة بل أجهزت على قيم وأعراف وقواعد مجتمعات؟!

المجتمعات العربية، التي تمر هذه الآونة بأكبر عملية إعادة هيكلة بعضها اختياري، حيث وعي بضرورات العصر وحتميات المستقبل، والبعض الآخر إجباري، حيث تحولات مباغتة وتغيرات مفاجئة، لا سبيل لها للنجاة والنهوض إلا عبر بوابة المدرسة.

المدرسة العربية تعاني الأمرين في الكثير من دول المنطقة، تارة تحت وطأة اقتتالات داخلية بإشعالات خارجية، وأخرى عبر جهود عاتية للإبقاء على المنطقة في خانة الفشل والإخفاق، وثالثة بزرع الفتن والدسائس حتى لا تكاد تفيق دولة من غيبوبتها حتى تباغتها بضربة قاصمة أخرى. ضربات متتالية لا تترك مجالاً أو فرصة لالتقاط الأنفاس وبناء الإنسان إلا فيما ندر.

ندرة الفرص لا تعني انعدامها. ونظرة سريعة إلى وجه طفل سوري نازح، أو يمني هارب، أو ليبي خائف، أو عراقي ما زال يتجرع مرارة سنوات من الصراع والفقر، أو فلسطيني اعتاد تاريخاً من الظلم والقهر وغيرهم ملايين في بقية أرجاء العالم العربي يعانون رغم أنوفهم من أعراض ما يسمى بـ «الربيع العربي» الجانبية أو آثار رياح التغيير العكسية تؤشر بأن «المدرسة» سر الخلاص، والتعليم طريق النجاة.

النجاة التي يحلم بها 60 في المئة من سكان المنطقة العربية ما زالوا دون سن الـ30 مرت أو تمر أو ستمر عبر المدرسة. والخلاص الذي يُمَني العالم العربي به نفسه لن يتبلور إلا بمدرسة حقيقية تستهدف أطفالاً مقدراً لهم أن يخرجوا إلى الألفية الثالثة وليس الثانية أو الأولى، وتعتمد على سبل وطرق تنتمي إلى عصر العلوم والرقمنة والتقنيات وليس إلى عهد السحر والشعوذة والقيل والقال.

وقد قال البنك الدولي في تقرير له صادر قبل أيام تحت عنوان «اقتصاد جديد للشرق الأوسط وشمال أفريقيا» إن معدلات البطالة المرتفعة والطموحات المحبطة ما زالت من أبرز عوامل عدم الاستقرار في منطقتنا، وأن ما من سبيل للحكومات العربية لمواجهة ذلك إلا باعتناق رؤية مستقبلية أكثر جرأة وواقعية ومواكبة لتطورات العصر الرقمي. وفي القلب من الروشتة الموضوعة تحديث الأنظمة التعليمية بشكل يواءم رياح الرقمنة.

رياح الرقمنة والأتمتة تهب على البعض فتمر دون التفاتة، وتهب على البعض الآخر فتتحول إلى منهج ومخطط ورؤية ومنصة. منصة «مدرسة» الإلكترونية التعليمية التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، قبل أيام قليلة تقول الكثير عن الرؤى الاستشرافية والإدراكات الآنية لما نحن مقدمون عليه.

الإقدام على تشييد منصة تعليمية تحوي خمسة آلاف درس تعليمي بالفيديو في العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء تغطي المراحل المدرسية من رياض الأطفال إلى الصف الثاني عشر باللغة العربية، إنما هي ضرب لسرب عصافير بأكمله بحجر واحد.

فمن إتاحة المنصة عنكبوتياً دون مقابل، لفتح أبوابها على مصاريعها أمام 50 مليون طالب عربي من المحيط إلى الخليج، لتخصصها في مجالات العلوم والهندسة والرياضيات الأكثر احتياجاً في سوق العمل، لكونها باللغة العربية المغدورة.

غدر تسرب أطفال العرب غير المسبوق من المدارس على مدار السنوات السبع الماضية، وتدهور الاهتمام بالتعليم المدرسي تحت وطأة الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية المتلاحقة، وهيمنة قضايا تتعلق بالتنظيمات الإرهابية والمؤامرات الخارجية المعضدة داخلياً وغيرها من آثار عكسية لرياح «الربيع» ألقت بظلال وخيمة على المدرسة العربية. وليست مبالغة لو قلنا أن المدرسة تقف على رأس قائمة المتضررين من أحداث السنوات السبع الماضية.

وحين قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قبل أيام إن «بناء مستقبل أفضل لمنطقتنا يبدأ من الفصول الدراسية»، وإن «التعليم الإلكتروني قادر على ردم الفجوة المعرفية»، فإنه يكون قد كلل الأقوال المأثورة عن المدرسة بعمل مأثور يصب في مصلحة المدرسة والطلاب ومستقبل المنطقة برمتها.

المثير أن منصة «مدرسة» لم تكتف بمحتواها التعليمي المجاني المتطور، بل تم إطلاق مسابقة يومية تمنح الفائز ألف دولار يومياً على سبيل التحفيز والتشجيع على البحث والاطلاع والتعليم الذاتي، بالإضافة إلى تشجيع روح المنافسة لدى كل طالب وطالبة قام بالتسجيل على المنصة.

فرص متكافئة، ومنصات متطورة، ومحفزات قائمة على البحث والمشاركة والتنافس في «مدرسة» هي أحوج ما يكون إليه الأطفال والمراهقون العرب الذين يمثلون انتفاخة شبابية قادرة إما على الانفجار في وجوه الجميع، أو مد يد العون والإنقاذ والتطور للجميع أيضاً.

* كاتبة صحافية مصرية

Email