بوركينافاسو أرض النزهاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتزاحم عندي المعاني وأرحل مع التاريخ وأستسلم أمام الجغرافيا وأتعجب من بذاءة العالم المُتمدن في غير عوالمه، ونبذه لبذاءة العالم الآخر في عالمه، وأقف حائرة أمام شخصيات أكدت أنها صارعت الموت لأجل الوطن ولكن ما إن لوح لها القدر بامتلاك السلطة حتى صارعت الوطن وأعدمته.

لم تأت كتابتي اليوم عن جمهورية بوركينافاسو من باب المُطالعة الثقافية أو التحليل السياسي لوضع تلك الدولة، ولا من باب حرصي على تداول هذا المقال في صفحات المواقع، بقدر ما هو تعبير عن حالة الصدمة والحيرة الخانقة التي يقف المرء أمامها عاجزاً حتى عن التفكير ناهيك عن الحل، وأعترف لكم أنني ولأول مرة أستغرق كل هذا الوقت لأكتب عن قطر أفريقي وجدت نفسي أمامه أقف بين إحساسين مُتناقضين لا يبارح أحدهما مكانه فما أن يتطاول أحدهما حتى يتعزز الآخر.

احتفلت النخبة الأفريقية قبل يومين بذكرى وفاة الزعيم الراحل توماس سانكرا أو كما يطلق عليه في أفريقيا «تشي جيفارا أفريقيا»، الذي حققت بوركينافاسو في عهده اكتفاءها الذاتي بل أصبحت تعاني من فائض غذائي وهو ما يعتبر معجزة في دولة أفريقية، وكان لي شرف حضور حفلة التأبين التي أخذتني بعيداً لعام 1987 ذلك العام الذي فقدت فيه أفريقيا خير رجالها على يد صديقه وساعده الأيمن بليز كامبوري، ومن سخرية القدر بأن ذات الاستراتيجية استخدمت مع كامبوري بعد عقدين ونيف من الحكم في بوركينافاسو والذي فر منها هارباً إلى كوت ديفوار التي كانت تحت حكم الراحل فيليكس بوانيني مركزاً لإجهاض أفريقيا من القادة الوطنيين.

كانت بوركينافاسو تسمى في قديم الزمان بفولتا العليا وذلك لاحتوائها على الروافد الرئيسية لنهر الفولتا ولكن بعد وصول توماس سانكرا للحكم أراد أن يرضي شعبه الذي يتحدث بلغة الموري والديولا، فقام بتغيير اسم الدولة إلى بوركينافاسو، فكلمة بوركينا في لغة الموري تعني النزهاء وفاسو بلغة الديولا تعني البلد.

بعد سلسلة من التجاذبات السياسية والصراع على السلطة في واغادوغو نجحت منظمة الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «الإيكواس» من إنهاء الأزمة البوركينية واستردت البلاد استقرارها وتقلد الحكم فيها روش كابوري في عام 2015، ومن الجدير بالذكر أن منظمة الإيكواس تعتبر المنظمة الفرعية الأولى في أفريقيا التي صاغت بروتوكولات أمنية لعملية التسوية بعد أن تدخلت في صراعات من خلال الوسائل المختلفة للتسوية بما فيها الوسائل العسكرية مما جعلها ذات خبرة في عملية التسوية.

نجحت بوركينافاسو اليوم في جذب الاستثمارات العالمية إليها، فعقد في عام 2001 منتدى الاستثمار في بوركينافاسو بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية والذي كان بمثابة نقلة في التبادل التجاري بين السوق المحلي والمستثمرين الدوليين، وشهدت البلاد تنافساً بين القوى الدولية، فواشنطن نجحت في تأسيس شبكة قواعد جوية في الدول الأفريقية وتعتبر القواعد الأميركية الجوية السرية في بوركينافاسو من أهم القواعد في الغرب الأفريقي، إلا أن العلاقات مع واشنطن ساءت في فبراير 2018 وذلك لاتهام بوركينافاسو بضم جماعة إرهابية مسؤولة عن الهجمات التي يتعرض لها شمال مالي، وبالإضافة إلى التنافس الأميركي الفرنسي عرفت بكين طريقها إلى بوركينافاسو بعد أن أعلنت واغادوغو قطع علاقتها الدبلوماسية مع تايوان للانضمام إلى منتدى التعاون الصيني الأفريقي الذي لا يمكن لأي دولة أفريقية الحصول على عضوية فيها إلا بقطع علاقتها مع تايوان، ومن الجدير بالذكر أنه منذ عام 2000 قطعت أغلب الدول الأفريقية علاقتها مع تايوان للاستفادة من التعاون الصيني في مجال التجارة والاستثمارات.

أين الحضور الخليجي من كل هذا؟ خليجياً، نجحت دول الخليج العربي منذ أكتوبر 1985 من توقيع اتفاقية إنشاء الوكالة الدولية لضمان الاستثمار مع بوركينافاسو في العاصمة الكورية الجنوبية سول، وفي يناير 2018 أعفت بوركينافاسو مواطني الإمارات من تأشيرة الدخول المُسبق لأراضيها، كما وقعت الإمارات اتفاقية الأجواء المفتوحة مع بوركينافاسو في مارس 2015، ومن جانب آخر تم تأسيس الصندوق السعودي لتنمية غرب أفريقيا وتم تدشين قرية الوليد بن طلال في العاصمة واغادوغو بالإضافة إلى مشاريع صحية واجتماعية تابعة لجمعية سوكا، كما بحثت الرياض مع كبرى الشركات الاستثمارية طرح فرص زراعية للمملكة للاستثمار في بوركينافاسو.

تحاول اليوم بوركينافاسو النهوض بشعبها والسير في طريق التنمية إلا أن ما يعيقها قربها الجغرافي من حركة نشاط التنظيمات الإرهابية أضف إلى ذلك التنافس الدولي على مواردها الحيوية التي امتلكتها ذات يوم من عمر التاريخ وقال حينها توماس سانكرا، «لن يستطيع أحد أن يغير مجرى التاريخ في أفريقيا بعد الآن».

 

* باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

Email