الأزهر والتصدي لقضايا المجتمع

ت + ت - الحجم الطبيعي

قامت الدنيا ولم تقعد قبل بضع أسابيع، داخل مصر وخارجها، حين أصدرت مؤسسة الأزهر بياناً جرمت فيه حوادث التحرش بالإشارة أو اللفظ أو الفعل، واعتبرته واحدة من ظواهر السقوط الأخلاقي والإنساني، ووصفته بالتصرف المحرم والسلوك المنحرف «يأثم فاعله شرعاً، وتأنف منه النفوس السوية، وتجرمه كل القوانين والشرائع». ووصف البيان التحرش بأنه جريمة لا مبرر لها أياً كانت ظروف حدوثها أو ملابساتها أو المكان الجغرافي لوقوعها.

وحظي بيان الأزهر بتغطية إعلامية غير مسبوقة في الصحف ووسائل الإعلام العربية والدولية ليس فقط للمكانة الرفيعة التي تحظى بها مؤسسة الأزهر كأكبر مرجع ديني في العالم الإسلامي، ولكن أيضاً لطبيعة القضية الاجتماعية التي اختارت أن تحشد مكانتها الرفيعة للتصدي لها.

فضلاً عن المنهج الموضوعي والعقلاني الذي أنطوى عليه البيان، حين دان جريمة التحرش بشكل مطلق، واعتبر تبريرها بسلوك الفتاة أو ملابسها فهماً مغلوطاً لما تمثله تلك الجريمة من عدوان على خصوصية المرأة وحريتها وكرامتها، وما تحدثه من فقدان الشعور بالأمن، مؤكداً أن التحضر والرقي اللذين توصف بهما المجتمعات يقاسان بما تحظى به المرأة من احترام وتأدب في المعاملة، وما تتمتع به من أمن واستقرار وتقدير.

ما لفت النظر في الترحيب الدولي ببيان الأزهر المهم الذي يبشر ببدء مرحلة يشتبك فيها مع قضايا المجتمعات الحيوية، ويتصدى للظواهر السلبية التي تعوق نموها وتقدمها، هي الأوصاف التي نسبتها الصحافة الغربية إلى الأزهر بما شكل خلطاً في المفاهيم، وقصوراً في فهم طبيعة دور تلك المؤسسة العريقة.

فالأزهر ليس «سلطة دينية» كما أشارت معظم الصحف الغربية التي احتفت ببيانه، بل هو مؤسسة تعليمية وبحثية طبقاً للقانون 103 لعام 1961 الذي أصدره الرئيس جمال عبد الناصر بإعادة تنظيمه والهيئات التي يشملها.

ويقضي القانون بأن الأزهر هو هيئة علمية، تقوم على حفظ التراث الإسلامي ودراسته ونشره، وإظهار حقيقته وأثره في تقدم الحضارة الإنسانية، والاهتمام ببعث الحضارة العربية، والتراث العربي العلمي والفكري، وتزويد العالم الإسلامي بعلماء متفقهين في علوم الدين، ويتسمون بالكفاءة العلمية والمهنية لتأكيد الصلة بين الدين والحياة، والربط بين السلوك والعقيدة، والارتقاء بالآداب وتقدم العلوم والفنون لخدمة المجتمعات. الخ. أما الدستور المصري الجديد فيعد الأزهر هيئة علمية مستقلة، تتولى مسؤولية الدعوة ونشر الدين واللغة العربية في مصر والعالم.

ومما ينفي عن الأزهر صفة السلطة أصلاً رفض شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن يكون الأزهر هو الجهة المسؤولة عن تفسير النص الدستوري بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، أثناء المناقشات داخل اللجنة التي أقرت الدستور، نافياً عنه بذلك أن يكون سلطة دينية، لتصبح المحكمة الدستورية العليا هي المسؤولة وحدها عن هذا التفسير، وقد أقرت المحكمة أن مبادئ الشريعة في النص الدستوري هي النصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، ولا مجال للاجتهاد بشأنها.

ولعل هذا الخلط في المفاهيم، وهو ما أدى إلى نشوب معركة داخل مجلس النواب المصري، بدأت العام الماضي، ولم تحسم نتائجها حتى هذه اللحظة، حين تقدم نائب برلماني بمشروع قانون لتطوير الأزهر مشفوعاً بمساندة أكثر من 150 نائباً، ففجر المشروع سجالاً اجتماعياً حاداً داخل البرلمان وخارجه، ليس حول نصوص المشروع، بل حول دوافع المشروع وأهدافه، والتفتيش في نوايا مقدمه وداعميه.

وشهد السجال خلطاً فاضحاً بين الإسلام كدين وبين الأزهر كمؤسسة تعليمية، ودفع المعارضون لمشروع التطوير إلى إضفاء القداسة عليها بما يحول دون أي مشروع لتطويرها.

أما المتحمسون للمشروع، فهم يربطون بينه وبين الدعوة لتجديد الخطاب الديني، التي انطوت على مطالبات متكررة بمراجعة بعض المناهج الدراسية، التي لم يعد أحد ينكر أنها ساهمت في تشكيل وعي - أو بالأحرى لا وعي - أجيال من جماعات التطرف، التي لا تفرق بين الفقه وبين النص الديني، ولا تستطيع أن تدرك أن الرسالات السماوية جاءت لإسعاد البشر، وحثهم على التمتع بمباهج الحياة لا القضاء عليها وتدميرها.

أمس الثلاثاء بدأ مجلس النواب دورة عمله الجديدة، والأمل معقود أن يتاح لقانون تطوير الأزهر فرصة مناقشة جادة وهادئة، كي يواصل الأزهر دوره في الاشتباك مع قضايا تدفع بمجتمعاتنا إلى الأمام في مواجهة حملات مسعورة لا تتوقف لجره إلى الخلف، نحو عصور الظلام والطغيان.

 

 

 

Email