سيكون لك يا بنيّ وطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

«عمي وطن إحنا ما عندنا.. والله ما عندنا وطن» هكذا أطلقها طفل عراقي صغير، باللهجة العراقية المحببة، من خلال إحدى القنوات التلفزيونية العراقية المحلية، وسط سوق شعبي في بغداد كما يبدو من الصورة، بينما كانت المناظر حوله تعبّر عن الخراب الذي أصاب عاصمة الخلافة العباسية، التي كانت السحابة تمطر حيث تشاء فيصل خراجها إليها.

قال إنه ما زال صغيراً، لكنه يشعر أنه لا يعيش في بلد. قال إن العراق كان عظيماً، وإن أهله أخبروه أن بغداد كانت عظيمة وجميلة، فأين هذا الآن؟ وأهل البصرة، ما ذنبهم أهل البصرة كي يشربوا مياهاً وسخة ذات رائحة قذرة؟ قال الصبي الصغير، وأضاف: «أبويه كان يقول لي إنهم كانوا عايشين، بعد كنا نقدر حتى بره نروح. لا أحد يحجي ويانا، لا أحد يتكلم ويانا. منّا لهنا ما نقدر نوصل والله.

بغداد هسه وين صايرة، بغداد شوفوا هالخرايب والانفجارات. ما نقدر نطلع منّا لهنا، ما نقدر نستمتع بحياتنا، وأنا بعدني صغير والله مو حاس بالدنيا». ثم يوجه حديثه للسياسيين قائلاً: «هسه أقول لهم: البرلمان خل يبوقون.

عمي بوقوا، بس نريد نحس بوطن. إلى متى نحن نظل هيجي؟ عمي العراق كله طلع. عمي اشسووا ببغداد؟ الله ينتقم من عندكم والله يا السياسيين. أنا بعدني صغير، بعدني ما شايف حياتي وهيجي شفتكم. حتى ماي فيه خير كفيلك الله ما كو نشرب. وين كان العراق عمي، وين كان؟». هكذا ختم الطفل حديثه العفوي قبل أن تنهمر دموعه. سأله المذيع وسط الحديث عن عمره، فأجاب إنه من مواليد عام 2004.

هذا يعني أنه وُلَد بعد الاحتلال الأميركي للعراق بسنة واحدة. لم ير إلا الخراب والدمار، ولم يسمع إلا أصوات الانفجارات. هذا الطفل العراقي الصغير لا يمثل نفسه، وإنما يمثل جيلاً كاملاً من الأطفال العرب، وُلَدوا وسط الدمار والخراب الذي حاق بعواصم ومدن عربية كانت ذات يوم عواصم الخلافة ومراكز القرار.

نعم يا بني، كان العراق عظيماً، وكانت بغداد جميلة، تماماً كما أخبرك أهلك. لم يكذب أهلك يا بني، لكنهم ربما لم يقولوا لك من فعل هذا بالعراق وعاصمته الجميلة. لم يقولوا لك إن المغامرات غير المحسوبة هي التي تؤدي إلى انهيار البلدان وزوال الحضارات ودمار المدن.

كان العراق عظيماً وكانت بغداد جميلة، وكانت الآمال مزدهرة، تعد بنهضة وحضارة لا تقل عن تلك التي أسسها «بيت الحكمة» ببغداد، لكن التهور والحسابات الخاطئة قضت على تلك الآمال ووأدتها في مهدها.

خاض العراق على مدى سنوات ثمانٍ حرباً مع إيران قضت على الأخضر واليابس، لكنها لم تمكّن الإيرانيين من احتلال شبر واحد من أرض العراق. ثم كانت المأساة الكبرى عندما غزا العراق جارته العربية الكويت، ليبدأ بعدها الانهيار الكبير، ويصبح العراق تحت الحصار ثم الاحتلال.

ما عجز عن تحقيقه الفرس في حرب السنوات الثماني قُدّم إليهم على طبق من ذهب بعد احتلال العراق. من يومها أصبح العراق نهباً للإيرانيين وأذنابهم وعملائهم واللاعقين لأحذيتهم.

من يومها يا بني لم يعد العراق عراقاً واحداً كما كان، لا تعرف سنته من شيعته، ولا مسلميه من مسيحييه ويهوده وإيزيدييه وصابئته، ولا أكراده من عربه. من يومها أصبح العراق نهباً لأولئك الذي استباحوا ماله فصادروا ثرواته وأمواله وخيراته حتى خوت خزائنه.

من يومها أصبح أهله لا يجدون ماءً نظيفاً يشربونه، وهو الذي طالما تغنى شعراؤه بفراته ودجلته. من يومها لم يعد أهله يستطيعون الانتقال من حي إلى حي في مدنه دون أن يوقفهم حاجز هنا أو هناك، أو يحصد أرواحهم انفجار لا يعرفون من خطط له ونفذه. من يومها لم يعد العراق آمناً وهو الذي طالما كانت شوارعه عامرة، وأنهاره مشرعة للساهرين على ضفافها، يلوذ بها الخلان والعاشقون للأوطان.

من يومها والعراق مقسوم بين سنة وشيعة ومسلمين ومسيحيين ويهود وإيزيديين وصابئة، يسعى كل أصحاب مذهب وديانة منهم إلى حماية نفسه من أخيه الذي كان. من يومها عاث أصحاب الضمائر الميتة فساداً فيه، فأصبح أهله يشربون مياهاً آسنة، ويأكلون طعاماً بائساً، ويتنفسون هواء فاسداً، ويصرخون أمام الكاميرات وخلف المايكروفونات، فلعل صرختك هذه تصل إلى أولئك الذين حرموك أن تعيش حياتك، كي يشعروا بفداحة ما فعلوه بك وأقرانك، وما أظنهم سيفعلون.

أنت صغير يا بني على هذا الهم، لكنك كبير بهذه الروح التي تحملها في داخلك، وهذه الغيرة التي تتحدث بها عن وطنك، وهذا الوعي الذي يجعلك تنصرف عن اللعب، كما يفعل من هم في مثل سنك، لتنشغل بهموم وطنك.

أمثالك هم الذين يعطوننا الأمل بعودة العراق العظيم، ونهوض بغداد الجميلة، فالأوطان العظيمة تنهض بالشرفاء أمثالك، حتى لو كانوا صغاراً، مهما فسد الكبار وأغرتهم طموحاتهم الشخصية ببيع أوطانهم للغرباء بدافع المال، أو العصبية المذهبية، أو التطلع إلى المناصب والوظائف العليا، فكم من صغير مثلك قدم دروساً يعجز الكبار عن تقديمها، وكم من كبار مثلهم سقطوا في الأوحال وباعوا أوطانهم من أجل حفنة من المال.

لقد كان العراق يا بني عظيماً، وسيعود عظيماً بأبنائه المخلصين أمثالك، وكانت بغداد جميلة وستبقى جميلة بكم أنتم أهلها، حتى لو شوهت صورتها الانفجارات. سيكون لك يا بني وطن هو أجمل الأوطان وأعظمها.

Email