«المتحف السمعي» للأجيال المقبلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لفتتني مبادرة وطنية جميلة، أطلقها أحد الناشطين في الولايات المتحدة الأميركية، وهي عبارة عن وضع أكشاك تشبه الاستوديوهات الإذاعية، موزعة في الأمكنة العامة، تدعو الناس إلى تسجيل قصصهم وتجاربهم الشخصية المحزنة أو المفرحة ذات الصلة بالأحداث الجارية حولهم للأجيال المقبلة.

وقد فوجئ ديفيد إيساي صاحب مشروع StoryCorps، بالإقبال الكبير من الناس على أكشاكه، من كل حدب وصوب، لتسجيل تجاربهم الشخصية وقصصهم للأجيال القادمة، حيث كان البعض يحضر معه جده أو جدته لتروي للأجيال القادمة في العائلة قصصاً، بعضها سري وبعضها الآخر يبعث على الفخر. وكان البعض يقدّم ما يشبه الوصية لأبنائه، ويوضح لهم أروع ما جرى في مسيرة حياته، ويحثهم على التعاضد في وجه نوائب الدهر.

ويتم حفظ كل هذه القصص المروية في مكان خاص بمكتبة الكونغرس، المزودة بأفضل أنظمة الحماية الآمنة لتحميها من الاندثار، حتى في أشد الكوارث الطبيعة قسوة، وذلك لتتمكن الأجيال القادمة من الحصول على الشريط بحالة جيدة للاستماع إلى صوت جدهم أو جدتهم. وفي بعض التسجيلات التي يوافق عليها المشاركين، يتم بثها بصورة دورية في الإذاعات الأميركية القومية، كل يوم جمعة، لتروي للناس خفايا أحداث وقعت ولم يعلم البعض تفاصيلها.

ومن هذه القصص المؤلمة، ما جرى للموظفين في برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، عندما قامت مجموعة إرهابية في صباح الحادي عشر من سبتمبر 2001، بخطف طائرتين مدنيتين والاصطدام بالبرجين، فنجم عن هذا الحادث مقتل نحو ثلاثة آلاف شخص، في أحد أشهر الحوادث المؤسفة بتاريخ أميركا. وروى أحد المشاركين هول صدمته، عندما رأى النار تشتعل في شركة زوجته، وإذا بالأخيرة تهرع مفزوعة من ألسنة اللهب «لتقذف نافذتها بكرسي»، لتحاول عبثاً الفرار من موت محقق.

وروت أخرى اللحظات الأليمة حينما اتصل زوجها بها هاتفيا من الطابق 103 في مركز التجارة العالمي، بعد اصطدام الطائرة الأولى به، ليودعها وأولاده!

وروى آخرون غيرها من قصص مؤلمة ذات صلة بمعاناة الأفارقة السود في أميركا، جراء الاضطهاد العنصري، الذي ذاقوا مرارته في المرافق العامة ومؤسسات الدولة، ليس لسبب، سوى أنهم من ذوي البشرة السمراء!

ويمكن للمشاركين في هذا المشروع الوطني، تسجيل قصصهم وحواراتهم مع الآخرين من هواتفهم الجوالة، أو أي أجهزة تسجيل أخرى، بدلاً من عناء الذهاب إلى الاستوديوهات المتنقلة في المدينة. وسعى القائمون هذا العمل الاجتماعي النبيل، إلى أن يغطي مشروعهم معظم أنحاء الولايات المتحدة الأميركية، حتى يحكي الناس قصصهم بصورة أكبر.

هذا المشروع الوطني هو أشبه "بالمتحف السمعي"، وهو خطوة مهمة لحفظ تاريخ الشعوب شفهياً. فلِم لا نجرب تطبيق مشروع شبيه في الوطن العربي، لنروي تاريخنا لأسرنا من جهة، وربما نصف وقع الأحداث السياسية علينا كأفراد من جهة أخرى، حتى يدرك من يأتي بعدنا، ماذا كنا نعاني من مرارة الألم أو "حلاوة" لحظات الفرح.

شخصياً، أتوقع نجاحاً للمشروع إذا كان مدروساً ويتناسب مع طبيعة المجتمع العربي. ولم لا ينجح هذا المشروع، ونحن من عُرف عنا أننا «شعب شفهي»، فكثير من أمجادنا، وحتى انتكاساتنا، ما زالت حبيسة أذهان من واراهم الثرى، من دون أن يكتبوا لنا سطراً واحداً!

Email