الميدان لا يبنيه اللسان

من المقولات الخالدة لعرّاب الاستراتيجية ورائد الميزة التنافسية في عالم الأعمال مايكل بورتر قوله: «جوهر الاستراتيجية أن تختار ما لا يجب أن تفعله إطلاقاً لكيلا تفعله»، فالعمر قصير والوقت ضيّق والجهد محدود، والتركيز له قدر لا يستطيع تجاوزه، فمن انشغل بكل شيء أضاع كل شيء، ومن أفنى وقته في الحديث و«التنظير» بكل المجالات كذّبته الأيام القادمة على مسرح المنجزات!

لذا يصبح من المهم أن يعرف الإنسان جيداً ما الذي يجب أن يوجّه جُهده إليه مما هو من صميم عمله، وفي نطاق تخصصه ليضع به كل طاقته وتركيزه، ليعود عليه بأكبر قدر ممكن من الإنجاز والفائدة والمساهمة في عملية بناء الوطن، وأن يعرف ما لا يجب أن يشغل نفسه به حتى لا يضيع في متاهة لا تنتهي ولا تعود لأحد بمنفعة إلا لمنافسي هذا الإنسان وخصومه، يقول نابليون بونابرت: «إياك أن تُقاطِع عدواً وهو يرتكب خطأ ما»!

في هذا السياق، أتت تغريدات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، والتي كانت أشبه بجرس إنذار لإيقاظ الغافلين، ومن أفنى جُلَّ وقته في أمور لا تقرب لاختصاصه من قريب أو بعيد ولا تعود عليه أو على وطنه بأي فائدة سوى وقت ثمين مضاع كان بالإمكان توجيهه للعمل والبناء والإنجاز، يقول سموّه: «علمتني الحياة أن الخوض الكثير في السياسة في عالمنا العربي هي مضيعة للوقت.

ومَفسدة للأخلاق. ومَهلكة للموارد»، فالعرب أضحوا فجأة مع خروج صرعة منصات التواصل الاجتماعي خبراء ومحللي سياسة، وأصبحوا لا ينفكون عن الحديث عن أمورها واختلاق النظريات حول الأحداث الجارية والتنافس في الخروج بأقوى سيناريو ممكن لنظرية التآمر، المشكلة أن العالم يتحرك وأن المتنافسين على القمة كُثُر ولا يتوقفون لحظة لاستعادة الأنفاس، فضلاً عن أن يضيعوا وقتهم في «التسدّح» في تويتر أو تقمّص دور «المحقق كونان» في فيسبوك، تلسع أمثال هؤلاء حرارة كلمات «بوراشد» الصريحة وهو يُكْمِل: «من يريد خلق إنجاز لشعبه فالوطن هو الميدان. والتاريخ هو الشاهد. إما إنجازات عظيمة تتحدث عن نفسها وإما خطب فارغة لا قيمة لكلماتها ولا صفحاتها»!

في عالم الإدارة هناك ما يُطلق عليه الشحم الزائد The Extra Fat وهو أن يزيد عدد الموظفين المطلوبين لأداء مهام معينة عن الحد المطلوب، ويكون التعامل مع هذا الخلل إمّا بإعادة توزيعهم على إدارات تحتاج إليهم لنقص بها و إما الاستغناء عن خدماتهم، وليت الأمر ينسحب بذات الطريقة على الشحم أو الفائض الغريب الذي خرج في عالمنا العربي والذي أوضحه سموّه بقوله: «لدينا فائض من السياسيين في العالم العربي ولدينا نقص في الإداريين.

أزمتنا أزمة إدارة وليست موارد»، ثم يضع مقارنة سريعة لتأكيد الخلل الكبير بين الدول الناجحة والدول المترنّحة نتيجة الخلل في توفير وتوجيه الموارد البشرية للاتجاه الصحيح: «انظر للصين واليابان لا يملكان موارد طبيعية أين وصلوا، وانظر لدول تملك النفط والغاز والماء والبشر، ولا تملك مصيرها التنموي ولا تملك حتى توفير خدمات أساسية كالطرق والكهرباء لشعوبها»، ثم يعرج سموه إلى نقطة حرجة ومتمّمة لما سبقها وهي قضية بعض الساسة العرب الذين يتدخلون في أعمال المختصين ربما لاستعراض عضلات السلطة أو لنظرة «الاستصغار» لكفاءة من حولهم، يقول سموّه: «في عالمنا العربي.

السياسي هو من يدير الاقتصاد، ويدير التعليم، ويدير الإعلام، ويدير حتى الرياضة»، هنا خلل في فهم الدور الرئيسي للقيادة والذي يفترض أن يكون «تسهيل» عمل الجميع، كل في تخصصه وضمان التناغم والتكامل بين أجزاء الكيان المختلفة لجعل أحلام البلد واقعاً ممكناً وليس التدخل في مهامهم وإرباك عمل المؤسسات، يؤكدها بوراشد وهو يضيف: «وظيفة السياسي الحقيقية هي تسهيل حياة الاقتصادي والأكاديمي ورجل الأعمال والإعلامي وغيرهم.

وظيفة السياسي تسهيل حياة الشعوب، وحل الأزمات بدلاً من افتعالها وبناء المنجزات بدلاً من هدمها».

مخطئ من يظن أن القمة تتسع للجميع، السفح فقط ما يتسع لهم، حيث يؤمه الثرثارون والهذّارون و«بيّاعو الحكي»، أما القمة فلا يقدر عليها إلا الأفذاذ وهم أندر من الكبريت الأحمر، قِلّة احترمت نفسها، فاحترمت وقتها ولم تُفْنِهِ إلا في نحت منجزات تُلْوَى لها الأعناق وتَخْرس أمامها كل الألسنة!

 

 

الأكثر مشاركة