في البحرين أصبحت جَداً صغيراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

كلما ذهب إلى أمسية كان يصطحب طفلة. سمراء بنكهة تمرة، تتبعه أينما ذهب كسوار من ذهب. لا تقيد معصمه بل تتدلّى من ضحكاته المبحوحة التي تضيء المكان.

قلت للشاعر البحريني، الذي ليس بحاجة إلى تعريف، الصديق قاسم حداد ذات أمسية في بيت عبد الله الزايد للتراث الصحفي بالمحرق: دائما تصطحب هذه الطفلة معك، هل تتباهى انك كبرت وأصبحت جداً؟ أنا تخيفني فكرة أن أكون جداً. خرجت منه قهقهة سمعها كل من كان في حوش البيت، وقال: يا رشاد، انت لا تعلم كم جميل أن تكون جداً صغيراً، انه شعور جميل يعيدك سنوات إلى الوراء يوم كانت أمها -ابنته- طفلة. بالأحفاد نتجدد ونتمرد على العمر.

عندما جاء قيس حفيدي الأول في 2007 وكنت وقتها أعيش في البحرين، كنت «صغيرا» إلى حد ما، تذكرت ما قاله قاسم حداد وبصمت له بعشرة الفرح. قلت لقاسم معك حق اشعر الآن بما قلته عن الأجداد والأحفاد. ضحك: ألم اقل لك، ثمة مشاعر لا ندركها إلا عندما نعيشها.

شعور الجد ليس كما الأب. أمامك وبين يديك وفي حضنك ابنك مكرراّ. فرح مقشر بلا مسؤولية مباشرة ولا نفقات حليب وطبيب وحفاضات. في الحفيد تستعيد سنوات كنت فيها مشغولاً عن مباهج الحياة. فأنت رب أسرة واجبك الأول توفير حياة كريمة لمن أنجبتهم. تأمين مستقبل يستطيعون فيه مواجهة مصاعب الحياة التي تزداد حرباً بعد حرب، لجوءاً بعد لجوء، وتمزقاً بعد تمزق. ضياعا بعد استقرار، تيها في صحراء، الأمل سراب، والأطماع ذئاب كلما أطعمتها زادت شهيتها لالتهامك. هذا هو قدرك أيها العربي، أو هذا ما جنت يداك المكبلتان بوهم الضعف وانت القوي او قدماك اللتان كلما تقدمتا خطوة رجعت خطوتين. وجلست مهملاً على رصيف الكون تنتظر من يعيدك إلى حيث كنت، سيد العالم ومنارة حضارة المدن والبحار.

حسناً، طالما أنت لا حول لك بمن حولك فلتحافظ على الأمكنة التي فيها رائحة أجدادك. تحفظ تاريخك المضيء واقرأ ما كتب السابقون من ثقافة وشعر، واسمع موج البحر الذي يحدثك عن بحارة سفن التجارة من أوروبا إلى الصين وعن صائدي اللؤلؤ في محارات التاريخ.

لا تهدم الماضي بل ابني الحاضر وتطلع إلى المستقبل بعيون ملؤها الأمل بغد أفضل. ففي الأحياء القديمة رائحة الماضي وتفاصيل التاريخ.

عشت في البحرين أربع سنوات (2006-2010) وحملت منها أمكنة لا تغادرني أجملها عبقاً بشذى التاريخ «المحرّق» حيث مجموعة من البيوت التقليدية المرممة أو المستحدثة، رحلة غنية تحيي تاريخ البلد، من تجارة اللؤلؤ إلى الإشعاع الثقافي عبر الشعر والصحافة والموسيقى.

في تلك الفترة أشرفت الشيخة مي آل خليفة، وزيرة الثقافة آنذاك، على مشروع رائد بترميم وإحياء بيوت قديمة لها دلالاتها منها بيت جدها الشيخ إبراهيم بن محمد الذي تحول إلى مركز ثقافي، وتحولت الأزقة التقليدية والمفعمة بروائح الطهو والحياة الحقيقية للسكان في المحرق، إلى متعة سياحية وثقافية.

وعلى عكس كثير من المشاريع المعمارية التي تتقمص التاريخ أو تمعن في محاكاة الحداثة، تبرز بيوت المحرق حقيقية تحكي تاريخ عائلات حية وأشخاص تركوا بصماتهم في التجارة أو الصحافة أو الشعر أو الموسيقى. أما عمليات الترميم والتحديث، فتحيي البعد التاريخي للبيوت، وتربط هذه الأمكنة فيما بينها لتعيد كتابة حكاية واحدة للمحرق والبحرين. كبيت عبد الله الزايد لتراث البحرين الصحافي، وبيت محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي، وبيت إبراهيم العريض للشعر، وعمارة بن مطر.

فقرب الشارع الرئيس للمحرق، حيث كانت أمواج البحر تلاقي الرمال فيما مضى، تقدم عمارة بن مطر متحفاً مصغراً وغنياً لتجارة اللؤلؤ، فهي بيت تاجر اللؤلؤ الشهير سلمان بن مطر. وعند أقدام هذا المنزل التاريخي، كانت سفن الداو التقليدية ترسو بعد أسابيع من الإبحار والغوص، لبيع غلتها من اللؤلؤ الثمين الذي شكل عماد اقتصاد الخليج قبل ظهور النفط.

وبين أروقة المحرق، تتبعثر البيوت المرممة بأناقة، فهنا بيت الفنان محمد بن فارس لفن الصوت، الذي يعد رائداً في تطوير النغم الخليجي، وهناك بيت الشعر المقام في بيت الشاعر والمترجم إبراهيم العريض، وقربهما بيت الصحافي عبد الله الزايد ناشر أول صحيفة في الخليج في الثلاثينات، وقد حول إلى بيت يحتفي بالصحافة في البحرين والعالم.

لا تخشى أن تكون جداً فأنت بالأحفاد تتجدد. وحين تزور البحرين عليك بالمحرق ففيها تشرب مع الشاي التاريخ المعتق.

كاتب أردني

Email