الأميركيون والأوروبيون.. حلفاء ولكن

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين يستنفد العاجزون عن التصدي لسطوة الولايات المتحدة وسائلهم، يرفعون في وجهها حجة يحسبونها حاسمة، وهي أنها دولة قوية كبيرة الحجم ولكنها قليلة الخبرة؛ ولا يزيد عمرها عن أربعة قرون. وهذه حقبة محدودة لا تقاس حتى بأعمار أحد الأبنية الحكومية في بعض عواصم العالم الثالث.

ما يفوت أصحاب هذه المعايرة السطحية أنهم بصدد دولة جديدة بالتاريخ، لكنها عميقة حضارياً تبعاً لعراقة مكونات اجتماعها السياسي. نحن بهذا المعني إزاء عملاق نهض علي أكتاف كل المجموعات التي تقاطرت إليه، حاملة معها خلاصة خبرات مختلف الحوزات الحضارية الإنسانية، الشق الأوروبي منها بشكل خاص.

في الولايات المتحدة تتعايش وتمتزج وتتلاقح، كل ما عرف البشر من تيارات اجتماعية ودينية وفكرية وفنية وعلمية واقتصادية وسياسية. وهذا جعلها تستحوذ على موارد إنسانية لم تتوفر لأي كيان دب على ظهر المعمورة. وهي تعتبر ذاتها، عن حق، الممثل الأول للحضارة الغربية والمجدد لشبابها والمدافع الأكبر عنها على جانبي الأطلسي.

خلال المئة عام الأخيرة، هرعت الولايات المتحدة لنجدة أوروبا لأكثر من مرة، حدث هذا عبر مداخلاتها العسكرية الحاسمة في الحربين العالميتين، ثم بقيادتها عالم الغرب الليبرالي خلال الحرب الباردة. أنقذت الأوروبيين من الوحشين النازي والفاشي، ثم إنها أقالتهم وانتشلتهم من ركام الحربين وجرائرهما الاقتصادية عبر مشروع مارشال، وتحت عباءة الناتو أسبغت عليهم حمايتها العسكرية. وشجعت توجههم الوحدوي، الذي أفضى إلى تجربة الاتحاد الأوروبي، لاستدراجهم بعيداً عن الإشعاعات الاشتراكية أو الشيوعية الزاحفة من الشرق.

الذين لا تستلفتهم إشعاعات هذه العناوين العريضة والتفاصيل التي تندرج تحتها، لا يمكنهم تقدير قوة الأواصر بين الأميركيين والأوروبيين، ومعرفة موازين القوى وحدود التلاقي والخلاف بينهم.

غداة تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين وخفوت الحرب الباردة، وتوسع التجربة الاتحادية الأوروبية شرقاً، ظن البعض أن الأوروبيين في طريقهم للتحرر من «الهيمنة» الأميركية.. غير أنه في معظم المناسبات التي اختبرت فيها علاقة الطرفين، ثبت أن واشنطن قد تقبل النقد ولفت الانتباه والنقاش وتستمع لوجهات النظر وتتبادل المعلومات، ضمن مشاورات البيت الغربي الكبير.. لكنها لا تتخلى عن مقعد القيادة وكونها مرجعية الكلمة الأخيرة.

لنتذكر مثلاً، أنه في سياق عملية التسوية الإسرائيلية الفلسطينية المملة، بذل الأوروبيون جهداً مضنياً. ومن المعلوم أن الدبلوماسية النرويجية، معززة بعدد من عواصم القارة العجوز، هي التي توصلت إلى ما عرف باتفاق أوسلو، بيد أن تتويج هذا الاتفاق جرى في حديقة البيت الأبيض. وبمرور الوقت، انفردت واشنطن برعاية عملية التسوية برمتها، حتى كاد الخلق ينسون الدور الأوروبي في صناعتها.

إلى ذلك، يتندر الكثيرون بأن الأوروبيين يتقدمون بمقترحات ويضطلعون بتحركات وجولات وينشطون، في الأوقات والمناسبات التي ينشغل فيها الراعي الأميركي الأوحد عن القيام بدوره في إطار عملية التسوية. ويتصل بهذا ما يقال عن أن الأوروبيين هم الطرف الدولي الأكثر تأثراً بأحوال الصراع الصهيوني العربي والقضية الفلسطينية، سلماً أم حرباً، أقله بسبب الجوار الجغرافي والمسؤولية التاريخية عن اشتعال هذا الصراع. ومع ذلك ونحوه، فإن دورهم لا يزيد عن التمويل الاقتصادي والمداخلات الإنسانية، بينما يظل الملف الاستراتيجي والسياسي حكراً على واشنطن.

بالمناسبة، فقد باءت بالفشل والإحباط كل محاولات استحثاث الأوروبيين، لاتخاذ مكان متميز في إطار ملف التسوية الفلسطينية دفاعاً عن مصالحهم، الأمنية والاقتصادية، المرتبطة بالشرق الأوسط. وغالباً ما كان هذا الفشل دليلاً على عجزهم عن الإفلات من الحلقة المفرغة التي تراوح فيها سياستهم الخارجية المشتركة.

قبل أن يمارس دونالد ترامب مهام وظيفته في البيت الأبيض بأيام، استضافت باريس، بدعم من شركائها الأوروبيين، مؤتمراً دولياً أكد على ما يعرف بثوابت التسوية الفلسطينية. وكان الهدف هو لجم أية تحركات جامحة من إدارة ترامب المتنمرة. لكن ما حدث، أنه مع نهاية العام الأول لولايته، كان ترامب قد أعد حساباته وضرب رؤية الجميع بعرض الحائط، حتى اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل والباقي معروف.

ندفع بذلك كله لبيان صعوبة عزل واشنطن وتسخين شركائها الأوروبيين، بحسبهم قادرين على الحلول مكانها في رعاية التسوية. والشاهد انه ليس لدى هؤلاء موقفاً عربياً مهدداً لمصالحهم أو متوعداً لهم في الحال والاستقبال، كي يستخدموه أو يلوحوا به في وجه المعلم الأميركي، فيقبل بإدخالهم إلى جواره في مقصورة عملية السلام..

 كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email