ليلة غضبت حيفا

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تلك الليلة، لم تنم حيفا، تماماً كما لم تنم منذ سبعين سنة. وجهت رسائل مكتوبة بحبر فلسطيني لم تمحه الحروف العبرية المفروضة قسراً عليها منذ النكبة.

غضبت وتظاهرت وصرخت أن الشعب الفلسطيني واحد في هذا العالم المضحوك عليه، في المخيمات والمدن والقرى والشتات حتى لو تعددت النكبات والنكسات والاحتلالات.

حيفا، عروس الكرمل، شأنها شأن المدن الفلسطينية الكبرى كان لها نصيب من الإرهاب الصهيوني، ففي أغسطس 1938 فجرت المنظمات الصهيونية لغماً في سوق المدينة أسفر عن استشهاد 24 فلسطينياً وإصابة 35 بجروح.

ومن قراها هاجر عشرات الآلاف إلى أرض الله الواسعة. فقراؤهم عانوا مشقة «السفر القسري» مشياً على الأقدام والأحلام إنهم سيعودون قريباً. وأغنياؤهم حملوا معهم ثرواتهم وعلمهم وثقافتهم وفنونهم إلى الدول المجاورة ليسهموا في بنائها وتطورها.

في تلك الليلة، رفع المتظاهرون أحرفاً ضخمة باللون الأحمر تمثل اسم «غزة» وأطلقوا هتافات ضد «الحرب على القطاع المحتل» و«يسقط الاحتلال» و«أوقفوا الفاشية» وهتافات أخرى تؤكد أن «اليهود والعرب ليسوا أعداءً». ولأن فلسطينيي الداخل شوكة في حلق الكيان الصهيوني، مارست قوات الاحتلال أقسى أنواع العنف ضد المتظاهرين واعتقلت مجموعة منهم يمثلون التركيبة الفلسطينية الحقيقية.

من مسلمين ومسيحيين ويهود غير صهاينة لم تنطلِ عليهم «كذبة إسرائيل»، عدا عن يهود ناتوري كارتا الذين ضاقوا ذرعاً بتطرف اليمين الليكودي بزعامة الأهوج نتانياهو والأرعن ليبرمان وآخرين يقودون اليهود إلى الهاوية.

قليل من الإسرائيليين يدركون أن أمن واستقرار إسرائيل لا يتحقق بإلغاء واستعباد الآخر الفلسطيني. بل بالاعتراف بحقه في دولة مستقلة ذات سيادة. فعبر مقابلة مشتركة وغير مسبوقة مع ستة من قادة الموساد أجرتها صحيفة يديعوت أحرونوت قبل أيام من احتفالات كذبة «عيد الاستقلال السبعين» ونشرت ملخصاً لها بعنوان «الرؤساء يتحدثون»، فماذا قالوا؟ وكيف يرون مستقبل «دولتهم» بعد سبعين عاماً على قيامها؟

القادة الستة وكلهم أعمارهم تفوق عمر «دولتهم» باستثناء الأخير، وهم تسفي زمير (93)، ناحوم أدومي (88)، شبتاي شفيت (78)، داني ياتوم (73)، افرايم هليفي (83) وتمير باردو (65)..توافقوا على أن «الدولة في وضع ميؤوس منه».

هكذا يصف شبتاي شفيت المشهد، فيما يعرب الستة «عن تخوف شديد من الاتجاه الذي تسير فيه الدولة في مستهل العقد الثامن من وجودها»، «المشكلة هي مشكلة القيم، الشروخ»، يقول باردو بقلق. «نحن بحاجة إلى زعامة يمكنها أن توجه الدفة بين الأزمات إلى الأماكن الصحيحة. ولأسفي الشديد، هذا ليس موجوداً اليوم».

هؤلاء الستة، لا يخشون أن يقولوا أموراً قاسية جداً في معيار صحافتهم، مثل: «اليوم أنظر بقلق وبألم إلى ما يبدو كقيم أساسية توجه قرارات الزعيم»، يقول زمير.

«لست واثقاً أنه لدى رئيس الوزراء وكبار المسؤولين في محيطه تتغلب المصالح العامة على المصالح الشخصية بمزيد من القوة ومزيد من المال. أنا قلق من المستقبل، فنتانياهو سيذهب ذات يوم. ما الذي سيخلفه لنا؟» ياتوم. يقول محذراً «توجد هنا شرور مريضة بشدة.

الناس حول رئيس الوزراء والناس في مناصب أساسية يخضعون للتحقيق على الفساد العام، وكل هذا لأنهم يضعون مصالحهم قبل مصالح الدولة. يقلقني الانفلات على حماة الحمى وانعدام الفعل في المجال السياسي مما يؤدي بنا إلى دولة ثنائية القومية، وهذه هي النهاية للدولة اليهودية والديمقراطية. ولهذا فاني أعتقد أن على نتانياهو أن يرحل إلى بيته».

ما أشار إليه عرضاً ياتوم، بخصوص «دولة ثنائية القومية» يتعلق بتساوي عدد اليهود والعرب في فلسطين التاريخية، وهي حقيقة صدمت أعضاء لجنة «الخارجية والأمن» في الكنيست. فحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن عدد السكان اليهود والسكان العرب متساوٍ إلى هذا الحد أوذاك في حجمهما في كل فلسطين من شاطئ البحر المتوسط وحتى نهر الأردن.

حيث في هذه البلاد يعيش اليوم أكثر من 13 مليون نسمة، منهم أكثر من 6.5 ملايين يهودي، نحو 400 ألف أبناء عائلات يهودية ليسوا يهوداً حسب الحاخامية، أكثر من 1.8 مليون عربي مواطن أو«مقيم في الدولة» حسب التصنيف الإسرائيلي ، بما في ذلك 350 ألفاً في القدس، 2.6 مليون في الضفة الغربية (من دون القدس) وأكثر من 1.8 مليون في غزة.

الأغلبية اليهودية الطفيفة ستتقلص أكثر من ذلك، بل وستختفي في السنوات المقبلة، بسبب معدل الزيادة الطبيعية الأعلى للفلسطينيين.

مستقبل إسرائيل محكوم ومحسوم ليس بمقاربة القوة العسكرية الإسرائيلية والضعف العربي، بل بما قالته حيفا العربية الفلسطينية في تلك الليلة وهي في بطن الحوت.

 

Email