سطوة النرجسيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

إحدى الشرارات التي قدحت فتيل الأزمة المالية العالمية، تلك القصة النرجسية لشخصية الرئيس التنفيذي لمصرف ليمان براذرز الأميركي، الذي أعلن إفلاسه عام 2008، إثر أزمة الرهن العقاري، وهي تسليفات منحت لمدينين لا يتحلون بمقدرة كافية على السداد. وذلك في حكاية مأساوية، أسدلت الستار على تاريخ البنك الممتد لأكثر من مئتي عام.

"صاندي تايمز"، نشرت مقالاً مطولاً، كتبه اندرو غورز، وصف فيه رئيس المصرف ديك فولد، بأنه كان "يدير البنك وكأنه في حالة حرب"، في إشارة إلى الأجواء الصارمة المتعجرفة التي خيمت على بيئته الداخلية، حيث "كان محاطاً بأشخاص يمجدونه، وكان يعامل العاملين وكأنهم عبيد في القرون الوسطى..

ويهينهم" لأتفه الأسباب التي لا يرغب في سماعها. والأسوأ، وهذا هو مربط الفرس، أن "أحداً لا يرغب ولا يجرؤ على تحدي قرارات الرئيس، وما يجتهد فيه من أحكام، حتى وإن كانت خاطئة".

بالتأكيد، ليست النرجسية وحدها هي السبب الرئيس لانهيار بنك صاحبه أزمة عالمية طاحنة، اعتبرت الأسوأ منذ الكساد الكبير عام 1929، إذ وصلت ارتداداتها إلى أقاصي الشرق وجزيرة العرب. غير أن النرجسية تبقى سلوكاً خطيراً، ويعرض الجميع لمخاطر جمة، لأن صاحبها لا يريد سوى أن يسمع مديحاً يمجده، ويعزز سلوكه المتعجرف والمتعالي على من حوله.

اطلعت على دراسات عديدة في محاولة لفهم ماذا تحدث النرجسية في بيئات الأعمال، فصدمتني دراسة، حاولت دراسة أكثر من 100 رئيس تنفيذي، لمعرفة مدى تأثير ذلك في أداء الشركات ككل، فتبين أنها قد لا تؤثر في نتائج الأرقام، على المدى القصير، لكن قرارات القائد النرجسي الذي يتجاهل من حوله، تجره وسائر المحيطين به، نحو مخاطر جمة.

وأرى أن بيئة العمل حينما يستشري فيها تمجيد القائد النرجسي، فإن شيئاً من ذلك لا بد أن يتسلل إلى شخصيات مرؤوسيه، فتشيع في العمل أجواء مماثلة غير صحية، يرى الموظفون فيها الخطأ ولا يجرؤ أحد على تصويبه.

مثلما يقول المثل الإنجليز "فيلٌ في الغرفة"، وهو تعبير يستخدم حينما يرى الجميع مشكلة ماثلة للعيان في أحد المشاركين باجتماع ما أو بفريق عمل، لكن لا أحد يتجرأ على توجيه أصابع الاتهام نحوه.

من حق البعض أن يدافع عن نفسه، بأنه ليس مصاباً بالنرجسية، تماماً مثلما فعل ترامب، أو بالأحرى أنصاره، حينما نفوا تلك التهمة عنه، لأن أحداً لم يختبره ليطلق عليه تلك الصفة جزافاً. وهم محقون، علمياً على الأقل، لأن قياس النرجسية ممكن عن طريق اختبار يكشف مدى إصابة المرء باضطراب الشخصية النرجسية NDP. غير أن الناس لا تبني انطباعاتها على أسس علمية عادة.

ومن حلول التعامل مع النرجسية، التي لم يثبت لها عقار واحد يمكن تناوله، أن تطبق المؤسسات، مثلاً، دراسات لتعريف "كل" العاملين بشخصياتهم أو ذواتهم self-awareness، لربما تسهم تلك الجهة الخارجية المحايدة، بكشف مميزات الشخصيات وعيوبها، فقد يكون من بين الجيل الثاني "نرجسي مستتر"، فيصبح أسوأ بمراحل من سلفه، فيجر الجميع بسطوته وتغطرسه نحو الهاوية.

 

 

 

Email