عدنا من المدى ولم نذهب إليه

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعود إلى أوراقنا القديمة، فتحمل لنا الكثير من الشجن، وتثير أحزاناً كانت ذات يوم رؤى لمستقبل لم تتحقق الكثير من أحلامه.

قبل أيام تعثرت، عن غير قصد، بأوراق قديمة كنت قد نسيتها، بعد أن مضى عليها أكثر من خمسة عشر عاماً، جرت خلالها مياه كثيرة في نهر أحزان أمتنا العربية، غيرت الكثير من الخرائط، وأخفت الكثير من الوجوه، وخلطت الكثير من الأوراق.

كان الحلم بحجم الوطن الذي قسّمته «سايكس بيكو» سيئة الذكر الشهيرة، وبقيت تجمعه رابطة أطلقنا عليها «جامعة الدول العربية»، للمحافظة على وحدة أرضه، فإذا به يتضاءل، حتى أصبحت أقصى أماني أبنائه أن تبقى كل دولة محافظة على وحدة أرضها، فلا تتمزق إلى أقاليم، يسيطر على كل واحد منها أتباع دين أو مذهب أو عرق أو فصيل مسلح أو جماعة مارقة.

مطوية صغيرة، عثرت عليها وأنا أعيد ترتيب قصاصات كثيرة كنت أراكمها منذ سنوات، على طريقة الأديب المصري صنع الله إبراهيم، في روايته «ذات»، التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني، على وعد بأن أعود إليها لترتيبها، فمضت السنون، سنة تلو سنة، دون أن أفي بوعدي لنفسي، حتى اضطررت لذلك تحت ضغط الانتقال من بيت إلى بيت.

كان عنوان المطوية «أسبوع المدى الثقافي – مهرجان الكتاب للجميع - الدورة الثالثة 2002».

أكثر من 15 عاماً مضت على ذلك المهرجان الثقافي، الذي دُعيتُ إليه، في مدينة الياسمين دمشق، يوم أن كانت سوريا تعيش وعد التغيير، الذي لم يأتِ، على يد قيادة شابة، كان الكثيرون يعلّقون عليها آمالاً كبيرة، بعد ذهاب الديناصورات التي سيطرت على مفاصل القرار سنوات طويلة، لكن هذا لم يحدث للأسف، لأسباب يعرفها البعض، ولا يعرفها البعض الآخر، وإن كان الجميع يعلقون الأمر على مشجب المؤامرة، التي تحضر وتغيب، متى شئنا حضورها أو غيابها.

كان أسبوع المدى الثقافي مهرجاناً ثقافياً لافتاً، أسسه المثقف العراقي فخري كريم، تأكيداً للحضور الفعّال للثقافة والفن والكتابة، وإقراراً بأن البحث عن القارئ يمر دائماً عبر مشروع ورؤى ومرجعية تحترم عقله ووجدانه، وتيسر له متعة القراءة والتجوال في عالم المعرفة والفن والرفيع، وهو دعوة للجيل الجديد المقاوم لتأكيد أصالته وإحساسه بالمسؤولية، ومساهمته في مواجهة التحدي وبناء مستقبل مشرق.

هكذا جاء وصف المشروع في المطوية التي كانت منسية، وقد جاءت تلك الدورة من المهرجان، في العام الذي سبق سقوط العراق في يد الاحتلال الأميركي، وكانت زاخرة بالأسماء الكبيرة من الأدباء والكتاب والمفكرين والفنانين العرب ذوي القامات الرفيعة، وشهدت حضوراً لافتاً لأسماء كبيرة من كل أنحاء الوطن العربي، وكان لي شرف إدارة واحدة من ندواتها المهمة، شارك فيها كل من المفكر الكويتي الدكتور أحمد الربعي، عليه رحمة الله، والروائي والناقد المغربي الدكتور محمد برادة، وأستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر المغربي الدكتور كمال عبد اللطيف، والمفكر السوداني الدكتور الشفيع الأخضر، وحضرها ما يزيد على ألفي شاب وشابة من طلبة وطالبات الجامعات السورية، غصت بهم قاعة المحاضرات بالجناح الإيطالي في معرض دمشق الدولي، وكان الواقفون أكثر من الذين وجدوا مكاناً لهم على مقاعد القاعة.

كان عنوان الندوة هو «11 أيلول والعالم والعربي»، وكان قد مضى على أحداث ذلك اليوم ما يقرب من نصف عام، وكانت الصورة ما زالت ضبابية، وقد تمحورت الندوة حول ما خلفته تلك الأحداث على عالمنا العربي، والمسؤوليات التي فرضتها، والمخاطر القريبة والبعيدة التي تلوح في الأفق، والاستراتيجيات البديلة، وطبيعة الرد، وكيف ستنهض القوى في عالمنا العربي، ومقومات هذا الاستنهاض.

يومها، أفاض المتحدثون، وهم من صفوة المفكرين والأكاديميين العرب، وأكثرهم توازناً واعتدالاً، في التحليل والتصوير واستخلاص الحلول، مركزين على الشباب، باعتبارهم أمل الأمة الوحيد، وكانوا يومها يشكلون غالبية حضور تلك الندوة، التي حضرت تفاصيلها مع تلك المطوية المنسية، وقد خرجنا منها بآمال عريضة، وثقة كبيرة بأننا قادرون على تغيير الصورة التي رسمتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر عنا، فما الذي حدث كي تنقلب المعادلة، وتنتقل المعركة إلى أرضنا، ونصبح نحن الضحايا، بعد أن كنا الجناة فقط، يقتل بعضنا بعضاً، ونخرب بيوتنا بأيدينا وأيدي من يدّعون الإيمان منا، ولا نعتبر كما يعتبر أولو الأبصار؟.

لو عاد بنا الزمن إلى الوراء، لما تصورت، والذين حضروا تلك الندوة، أن تصل بنا الحال إلى ما وصلنا إليه اليوم من تشرذم وتخريب لأوطاننا بأيدينا.

فرغم كل المشاكل التي كان يعاني منها عالمنا العربي في تلك الفترة، ورغم كل التبعات الكبيرة التي خلفها احتلال نظام صدام حسين لدولة الكويت، ورغم كل الانشقاقات التي حدثت بعد ذلك الاحتلال المشؤوم، إلا أن ثمة بصيص أمل كان يلوح في الأفق البعيد، وكان حثّ الخطى نحو ذلك البعيد مشروعاً، حتى لو كان الوصول إليه يستغرق جهداً ووقتاً، يستحقان أن نتحملهما لتغيير الحال، لكن الحال لم يتغير كما كنا نتمنى ونأمل، وإنما كما أراد من خطط وسعى إلى نشر الفوضى في وطننا العربي، وقلب الطاولة على رؤوسنا جميعاً.

عدنا من أسبوع المدى الثقافي في دمشق، على أمل أن نذهب إلى المدى الأرحب في بناء مستقبل عالمنا العربي، لكننا بقينا في أماكننا، حتى جاء الطوفان ليبتلع من ضل دربه، ولم ينجُ منه إلا من عرف ما يراد بهذه الأمة، فاحتاط لوطنه وشعبه.

Email