مئوية زايد 1918 ــ 2018

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحتفي دولة الإمارات العربية، بمئوية الراحل الكبير والزعيم الخالد، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه. وقد ولد القائد الفذ والمحبوب قبل قرن من الزمن، ورحل في الثاني من نوفمبر 2004. وقد ترك في أثره، دولة فتية عصرية، تضاهي أكبر الدول من حيث تقدمها ورفاهية أبنائها.

وقد قام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، برعاية محاضرة قيمة عن «الشيخ زايد والسلطة في الوطن العربي»، والتي ألقاها الإعلامي الجزائري، الأستاذ خالد بن ققه، يوم الأربعاء الموافق 24 يناير.

وقد ركز المحاضر الكريم على مسائل في غاية الأهمية. أهم هذه المسائل، قضية الأخلاق والسياسة، وكيف أن الشيخ زايد سعى إلى سياسات تلازمت فيها الأخلاق والسياسة. وقد دحض الشيخ زايد بممارساته السياسية، والكلام للمحاضر، مسألة أن السياسة خالية من الاعتبارات الأخلاقية، أو أنها تقوم على الخداع والمكر.

كما يقترح المحاضر قضية ذات أهمية كبيرة. ففي سياق ما يشهده الوطن العربي من فشل الدول، وتباطؤ التنمية الوطنية، ما الدروس التي يمكن أن نستفيد منها في تجربة الشيخ زايد وسلطته الوطنية؟، وهل يمكن أن تعمم هذه التجربة على بقية الدول العربية؟، وكيفية الخروج من الإطار الفردي إلى الإطار المؤسساتي، لتعميق هذه التجربة الرائدة في عالمنا العربي. ومما يجدر الإشارة إليه في المحاضرة، التأكيد على أن الإنسان كان مركز وجوهر العمل السياسي للشيخ زايد.

وفي نفس الوقت، كانت رؤية الفقيد، رؤية شاملة للتوصل إلى توازن بيئي بين الإنسان وحاجاته وبيئته ومتطلباتها. فلا إسراف في حاجات البشر، ولا تفريط في المحافظة على البيئة واستدامتها. وقد أسمى المحاضر هذا الاهتمام بالبيئة، حوار مع الكون وروح الإنسان وروح الأرض.

وأن الرؤية الأحادية لعملية الإنسان ومركزيته، نظرة غير مكتملة، ستقود البشرية إلى كارثة بيئية، قد تبدت بوادرها في تغير المناخ. فكان لا بد لرجل ملهم كزايد، أن يدرك هذه المعضلة، وخاصة أن زايد كان عاشقاً للبيئة وللتفكر والتأمل في حالتها. وقد جمع زايد خبرة واسعة من ميراث تقليدي قديم.

فهو حفيد حاكم (زايد الأول 1955-1909)، والذي ثبت أرجاء الحكم في إمارة أبوظبي، ووحد أراضيها، وأضحى أهم قائد في منطقة الساحل. وابن حاكم (سلطان بن زايد الأول 1922-1926)، وأخ لحاكم (شخبوط بن سلطان 1928-1966). فهو تربى في بيت الحكم، وترعرع في كنف حكام آل نهيان، وكسب أساليب الحكم من هذه الخبرة التاريخية المتراكمة عبر أجيال.

وما إن وصل زايد إلى سدة الحكم في السادس من أغسطس عام 1966، إلا وقد تشبع بخبرات عركها واكتسبها من خلال علاقاته الوطيدة بأبناء الوطن. فقد كان ممثلاً لحاكم أبوظبي لفترة من الزمن، كسب خلالها ود ومحبة كثير من القبائل، وخاصة في البادية. وكانوا يفاخرون بأن زايد واحد منهم.

ولعل حبه للبيئة، نمى مع تجواله في الفيافي والقفار، والبحث الدؤوب لأبناء القبائل عن الماء والكلاء. وأدرك الحاجة إلى مصادر بيئة مستدامة، كالزراعة، حيث كان يقول، أعطني زراعة أعطك حضارة. فالزراعة مورد إذا ما أحسن استغلالها فهو مورد غير ناضب. وكما قال المحاضر، فإن التجربة العربية لم تنتج قصة نجاح كقصة الإمارات العربية المتحدة.

فهي تجربة عربية وحدوية ناجحة، تحققت دون قطرة من الدم أسيلت، أو ثروة أهدرت، أو كرامة انتهكت. وكانت مسيرة الاتحاد تمضي بخطى ثابتة، صغيرة أحياناً، ولكنها كبيرة في معناها. فقد كان التأني والتدبر، ديدن قادة الاتحاد. فلم تكن القرارات متعجلة أو ارتجالية. بل كانت دائماً متدرجة ومدروسة.

والفضل في ذلك يعود إلى طبيعة النظام السياسي المبني على شرعية تاريخية، وأسلوب في الحكم ينشد الإجماع والتوافق في اتخاذ القرارات. ففي الأعراف القبلية والتقاليد المتوارثة، فإن المحصلة النهائية، جعل الجميع في وضع مريح، بالوصول إلى حلول وسطى بالتراضي. ويختلف هذا الأسلوب في الحكم، عما يسمى في الأدب السياسي الحديث، بالبرغماتية السياسية. وقد أشرت في مقالة سابقة عن الشيخ زايد، أن أسلوبه في الحكم أقرب إلى المفهوم الأرسطوطاليسي «الفرونيسيس».

«وعادة ما يترجم هذا المفهوم بالإنجليزية إلى «الحكمة العملية». أي تبصر الوسائل لتحقيق الغايات النبيلة. ويطلق عليها الفيلسوف المسلم الفارابي «التعقل». أي أخذ الأمور بكثير من الحصافة والتأمل، وتحقيق الأهداف بأفضل الوسائل». وهنا الاختلاف الجوهري بين هذا المفهوم والبرغماتية السياسية. فمفهوم الفرونيسيس «تركز على السياق الأخلاقي للوسائل والغايات.

كما أن المفهوم يركز على الممارسة لا على الحكم على الأشياء، فهي تداخل بين المعايير وتطبيقاتها. وأخيراً، يتميز المفهوم بالتوازن بين المعرفة والعاطفة بتوحيد العقل والمشاعر الوجدانية». الاحتفاء بمئوية زايد أمر مهم لعدة أسباب، أهمها: الاعتراف بالفضل لمؤسس هذه الدولة، والتي تعتبر أنموذجاً فريداً بين أترابها من دول المنطقة.

كما أن الأجيال الجديدة تتعرف إلى شخصية زايد بأبعادها المتعددة، كحاكم ورجل دولة وأب ورجل العائلة وإنسان وقائد فريد. وأخيراً وليس أخراً، علينا في الوضع الذي تعيشه الأمة العربية، استعادة تجربة زايد، والتبصر فيه، والتعلم منه كيف تدار الأمور بحكمة وروية.

* كاتب وأكاديمي

Email