ليلة ماتت السروة

ت + ت - الحجم الطبيعي

وجدتها جثة هامدة.. شعرها الأخضر منثور على الأرض. عظامها متكسرة وجذعها كما هو، صلب لم يمسسه كسر. عصفت بها الريح فماتت واقفة ومالت كآخر موّال حزين. السروة التي أحب، ماتت في تلك الليلة الباردة، ليلة العاصفة. حزنت عليها، وحزنت أكثر على العصافير، أين ستنام الليلة المقبلة.

نبتت وحدها، ربما حمل بذرتها عصفور مهاجر فسقطت منه هنا بين التراب والسور. كانت طفلة أرعاها بالماء. ظلت تكبر، كلما نظرت إليها تبتسم، وحين ألمس أوراقها تخضرّ. لم تنس سنة أن تكبر. صارت صبية على عنقها عقد لؤلؤ، من حبات خضراء متشققة دون أن تنكسر. كلما هبت الريح ألقت بحملها حبة حبة على الأرض التواقة للحب.

في الصيف تمنحنا ظلاً طويلاً كثيفاً. ومن أغصانها أرجوحة للأولاد الذين كبروا معها، لكنها سبقتهم إلى فوق. صارت أطول منهم ومن أسرّتهم ومن غرفهم، لكنها ظلت تطل عليهم من الشبابيك، تطمئن عليهم، وإن اشتد الحر تظلله.

سروة البيت العتيق صارت عنوان البيت. من بعيد يراها الغريب، فيستدل على من يريد. صاحب البيت، جار البيت، حارة البيت. «هل ترى تلك السروة، على اليمين بقليل بيت من تريد»، على يسارها، قبلها بقليل، بعدها بقليل، فوقها، تحتها، كل ما تبحث عنه. خضراء كقلب عاشقة تظل صيفاً وشتاءً. لا تذبل ولا تصفرّ. لم أكن أعلم أن شجرة السرو طبيبة أيضاً. كنت أظنها ظلاً أخضر وبيوتاً للعصافير فقط.

يقول الطب الحديث أنه عندما يوضع السرو خارجياً كدهون أو زيت عطري يحدث تقبضاً للأوردة الدوالية ويضيق الأوعية الدموية. ويستخدم مغطس من أوراقها للأقدام لتنظيفها ومكافحة فرط التعرق، وعندما يؤخذ السرو داخلياً يعمل مضاداً للتشنج ومقوياً عاماً ويوصف للسعال التشنجي ويفيد هذا العلاج أيضاً في الزكام والأنفلونزا والتهاب الحلق.

يحضر من مسحوق ورقة جرعة تصل إلى أربعة جرامات لعلاج آلام الصدر والسعال. وصمغ السرو يلحم الجراح جيداً ويوقف نزف الدم.

أما في الطب القديم فقد استعمل الإغريق أوراق السرو المهروسة والمنقوعة لعلاج الزحار والربو والسعال.

وكان الفراعنة يستخدمون الأوراق في عدة أغراض من أهمها وصفة فرعونية قديمة لصبغ الشعر وكانت تستخدم جذور النبات بعد سحقها وعجنها بالخل ثم توضع على شعر الرأس على شكل لصقة بغرض تقويته وصباغته.

وقال ابن سينا في السرو: «يذهب البهاق، مسود للشعر. ورقه الطازج مع الجوز والجميز للفتق إذا ضمد به، إذا دق جوز السرو ناعماً مع التين وجعل منه فتيلة في الأنف ابرأ اللحم الزائد. طبخه بالخل يسكن وجع الأسنان، نافع من أورام العين ضماداً، جوزه بالشرب لعسر التنفس والسعال المزمن وقروح الأمعاء والمعدة».

أما داود الأنطاكي فقال في مذكراته: «صمغه يلحم الجراح ويحبس الدم مطلقاً ويجفف القروح أين كانت، يحلل الأورام ويجلو الآثار خصوصاً البرحي طلاء وشرباً. الغرغرة بطبيخه حاراً تسكن أوجاع الأسنان وقروح اللثة ويشد رخاوتها. ثمره طرياً يشد الأجفان ويلحم الفتق أكلاً وضماداً. يطرد الهوام بخوراً، إذا عجن بالعسل ولعق أبرأ السعال المزمن وقوى المعدة. إذا طبخ ورقه مع ثمره مع الأملج والماء والخل حتى يهترئ ثم طبخ ذلك في دهن وطلي به الشعر سوده وطوله ومنع تساقطه».

ما من نبتة إلا فيها إلهام للشعراء. يقول محمود درويش:

على شجر السرو/‏ شرق العواطف/‏ غيم مذهّب/‏ وفي القلب سمراء كالكستناء/‏ وشفافة الظل كالماء تشرب /‏تعال لنلعب/‏ تعالي لنذهب إلى أي كوكب/‏ حنطية كأغاني الحصاد.

أما نازك الملائكة فتقول: «ثم ها أنت هنا دون حراك.. متعباً.. توشك أن تنهار في أرض الممر.. طرفك الحائر مشدود هناك.. عند خيط شدّ في السروة، يطوي ألف سرّ.. ذلك الخيط الغريب.. ذلك اللغز المريب.. أنه كلّ بقايا حبّك الذاوي الكئيبة.

ماتت سروتي وبقي ظلها أخضر في بيتي، صنعت من ضلوعها بيتاً ألوذ به من حر الحروب التي أحرقت الأخضر واليابس ومن العواصف التي تهب من كل جانب وجمدت الدم في عروق أمتي!

 

Email