هل بقي من القومية شيء؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تصادف هذا العام الذكرى المئوية لميلاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي وُلد في 15 يناير 1918، وقد نُظِّمت في إطار ذلك فعاليات متعددة في مصر، واحتفت بالمناسبة صحف عربية ومواقع إلكترونية عدة.

وسواء اتفقنا أم اختلفنا على عبدالناصر، فقد ترك بعد رحيله جدلا لم ولن ينتهي، باعتبار ثورة 23 يوليو 1952، التي كان عبدالناصر أهم قادتها وأبرز رموزها، نقطة تحول كبرى، ليس في تاريخ مصر فقط، وإنما في تاريخ الأمة العربية، التي لم يحظ بحب شعوبها في النصف الثاني من القرن العشرين زعيم مثلما حظي جمال عبدالناصر، ولم يؤثر في هذه الشعوب زعيم مثلما أثّر جمال عبدالناصر، بتوجهه القومي، وبخطبه التي كانت تنتظرها الجماهير العربية بلهفة، وتتجاوب معها وهي على بعد آلاف الأميال من مصر العروبة، التي اكتسبت صفتها هذه من خطب عبدالناصر، ومن مواقفه الوطنية والقومية.

لسنا بصدد محاكمة عبدالناصر ولا مرحلته ولا عهده، فقد نُصِبت لذلك منصاتٌ كثيرة، وهاجمه كثيرون، وتصدى للدفاع عنه كثيرون.

لكن المناسبة تطرح موضوعات كثيرة، وتطرق أبواب ملفات لم تُغلق منذ رحيل عبدالناصر وحتى الآن، لن نختار منها موضوعا يتعلق بعبدالناصر رئيس مصر، وقراراته الداخلية بكل ما يدور حولها من جدل يتجاوز شخص عبدالناصر، التي يتفق الجميع على الكاريزما التي كان يتمتع بها، حتى لو اتخذ البعض جانبا معارضا لما تركته تلك القرارات من آثار يرى هذا البعض أنها سلبية، وإنما سنتطرق للمد القومي الذي رفع عبدالناصر من وتيرته منذ قيام ثورة 23 يوليو، وحتى وفاته في 28 سبتمبر 1970.

هذا المد الذي ارتبط بعبدالناصر أكثر مما ارتبط بأي زعيم عربي آخر، رغم أنه ليس وليد ثورة 23 يوليو، وإنما له جذور تاريخية، يجدر بنا أن نمر عليها مرورا سريعا، قبل أن نتوقف عند الأثر الذي تركته الثورة على هذا المد، والزخم الذي أضفاه عبدالناصر عليه، وما إذا كان هذا المد قائما حتى يومنا هذا، خصوصا بعد رحيل عبدالناصر، بكل ما شهده وطننا العربي من أحداث جسام، وأثر هذه الأحداث على فكرة القومية العربية.

يقوم مفهوم القومية العربية على الاعتزاز بالانتماء إلى الأمة العربية التي تجمعها لغة وثقافة وتاريخ وجغرافيا ومصالح واحدة، وهو مفهوم قديم يصعب معرفة متى بدأ، لأنه ظهر في الكثير من آثار العرب، ومنها الشعر الجاهلي على سبيل المثال، أي قبل الإسلام، وإن كان مجيء الإسلام قد أضاف إلى هذا المفهوم شعور العرب بأنهم أمة متميزة، لأن القرآن نزل بلغتهم فخلّد هذه اللغة حتى قيام الساعة.

وفي مطلع القرن العشرين كانت القومية العربية هي القاطرة التي قادت حركة التحرر من النفوذ التركي بعد سقوط الخلافة العثمانية ومجيء الاستعمار الأجنبي، وتحول دولة الخلافة الإسلامية إلى احتلال تركي يحكم الأجزاء التي لم تقع بعد تحت الاحتلال الأجنبي من الوطن العربي، وهي بلدان المشرق العربي، التي لم تلبث أن ثارت على هذا الاحتلال، فيما عُرف بالثورة العربية الكبرى، التي اعتُبرت أحد أبرز تجليات القومية العربية بشكلها المعاصر.

وقد كان للقومية العربية مفكرون رواد، من أشهرهم ساطع الحصري وقسطنطين زريق في سوريا، وعبدالرحمن عزام في مصر، الذي أصبح أول أمين عام لجامعة الدول العربية عند إنشائها عام 1945.

تأسيسا على هذا التاريخ لفكرة القومية العربية، سطع نجم جمال عبدالناصر في العالم العربي، خاصة بعد انتصاره في أزمة السويس وفشل العدوان الثلاثي على مصر.

ولعبت إذاعة «صوت العرب» دورا كبيرا في إشعال حماس الجماهير العربية، ببثها لخطب عبدالناصر، ونشرها لأفكار عبدالناصر القومية بين الجماهير العربية، حتى أصبح عبدالناصر، بهذه الأفكار التي كان يدعو إليها، زعيما لا ينازعه أحد، فتربع على عرش قلوب أبناء الأمة العربية.

وقد أتى إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 وتأسيس «الجمهورية العربية المتحدة» ليرفع من أسهم عبدالناصر لدى الجماهير المتعطشة للوحدة، فصارت تهتف له، وتتخذ منه النموذج الأول، وربما الأوحد في تلك المرحلة، للقيادة والزعامة.

ورغم الانتكاسات التي جاءت بعد ذلك، بفشل مشروع الوحدة المصرية السورية وإعلان الانفصال عام 1961، ثم هزيمة يونيو/حزيران 1967 أمام إسرائيل، إلا أن شعلة القومية العربية لم تنطفئ، وظلت مصر، بزعامة عبدالناصر، تلعب دورا مهما في قيادة الأمة العربية.

وكانت آخر جهود عبدالناصر مؤتمر القمة العربي الطارئ الذي عُقد في القاهرة يوم 27 سبتمبر 1970، لإطفاء نيران الخلاف بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهو المؤتمر الذي تعرض عبدالناصر في ختامه لنوبة قلبية، لتفيض روحه إلى بارئها، ويعم الحزن الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه، وتنتهي حقبة حافلة، ليس من تاريخ مصر وحدها، وإنما الأمة العربية كلها.

واليوم، وبعد ما يقرب من نصف قرن على رحيل عبدالناصر، الذي تصادف مئوية ميلاده هذا العام، نتساءل: ماذا بقي من القومية العربية؟

لا شك أن نظرة إلى واقع العالم العربي، الذي تسوده النزعات والانقسامات الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية وكل أشكال الاختلاف والتمزق، تعطينا فكرة عما وصل إليه حال العرب الذين ناضل عبدالناصر من أجل تخليص نفوسهم من هذه النزعات، وحارب ليجمع الأمة على العوامل المشترَكة بينها، وتهميش المختلَف عليه.

لقد ذهبت القومية العربية مع الداعين لها، وأبرزهم في العصر الحديث عبدالناصر، وعلينا أن ننتظر فجرا آخر يبعثها من جديد.

 

 

Email