بديل الوساطة الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا صح أن القيادة الفلسطينية تجتهد راهناً، مع قائمة أصدقائها في العالم، لإنشاء تحالف دولي ينهى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فإنها قد لا تجد آلية أنسب من تعويم مؤتمر باريس، الذي عقد في منتصف يناير الماضي. هذا بالطبع مع إجراء التعديلات والتحسينات اللازمة لمقتضى الحال والمستجدات.

كانت باريس دعت إلى هذا المؤتمر قبيل تسلم دونالد ترامب لمهامه في البيت الأبيض بخمسة أيام فقط، واستجاب لها ممثلو 75 دولة ومؤسسة دولية مرموقة. وقد نشأت فكرة المؤتمر في حينه، عن مخاوف باريس ومعظم العواصم الأوروبية، من جرائر خطاب ترامب ورهطه المنحاز للرؤى والتكييفات الصهيونية والإسرائيلية تجاه التسوية الفلسطينية. وكذا عن الاقتناع المتزايد بأن العالم بصدد نمط قيادي أميركي، ربما لن تختلف أفعاله عن أقواله. وعليه، فإن استقباله بحائط صد يؤكد المبادئ الأساسية للتسوية، التي تلقى إجماعاً دولياً، سيكون له مردود إيجابي في إلزام الإدارة الأميركية الجديدة بهذه المبادئ.

رغم غضب الإسرائيليين تجاه فكرة المؤتمر، وسخريتهم منها، وتسفيههم لها، من حيث الشكل والموضوع، وعدم الاكتراث الأميركي بها من الأصل، إلا أن الدبلوماسية الفرنسية تمكنت بحنكة تحسب لها، من تمرير الرسالة التي أرادتها، ورحب بها الفلسطينيون: تحذير إدارة ترامب من أخطار تطبيق وعودها الانتخابية، بدعم سياسات التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، والغلو في الإفصاح عن العداء للفلسطينيين والعرب والمسلمين. وذلك عبر إبراز وجود تكتل دولي كبير وراء حل الدولتين، يتعين على هذه الإدارة عدم تجاوزه.

وقتذاك، أيد الفلسطينيون الجهد الفرنسي، بحسبه يوافق طموحهم إلى عولمة قضيتهم، وتدويل عملية التسوية، التي ظلت تراوح مكانها طويلاً، تحت وطأة احتكارها أميركياً، فاستجابوا لدعوة المشاركة في حضور الطرف الإسرائيلي أو في غيابه. وحين رفضت إسرائيل الدعوة، وشهرت بالمؤتمر وبمخرجاته، كظم الفلسطينيون غيظهم إزاء الاستنكاف الفرنسي عن دعوتهم للمشاركة، بزعم «التوازن بين الخصمين الفلسطيني والإسرائيلي، والوقوف على مسافة واحدة منهما».

في بيانهم الختامي، سار المؤتمرون على حبل مشدود. لزموا كل ما تم إقراره في لقاءات دولية مشابهة حول أصول التسوية وعناصرها، ولم يلوحوا باحتمال اتخاذ عقوبات ضد العصيان الإسرائيلي المزمن، وتجنبوا استفزاز «الوسيط الأميركي». وكرروا الحديث عن المفاوضات الثنائية كطريق لحل الصراع، وفقاً للمرجعيات المعتمدة، ومفهوم حل الدولتين.

لم يعترض الفلسطينيون على هذه التعميمات، لكنهم كانوا يأملون في وضع سقوف زمنية وموضوعية للمفاوضات، وتحديد إجراءات عقابية بحق الطرف المتمرد عليها. والأهم أنهم تطلعوا إلى إمكانية تشكيل مجموعة مراقبة ومتابعة دولية للمفاوضات، على غرار المجموعة 5+1 الموصولة بمفاوضات المشروع النووي الإيراني.

الشاهد أن إدارة ترامب وقعت في كل المحظورات، وتخطت كل الخطوط الحمراء التي تخوف منها كل المشاركين في مؤتمر باريس. ولم يعد ثمة مجال للوم الفلسطينيين، وهم ينبذون اصطبارهم على عوار السياسة الأميركية، ويجهرون برفض انفرادها بالوساطة في تسوية قضيتهم. وإذا ما وضعنا الأعين على التبجح الأميركي ضد الإجماع الدولي الكاسح، في كل من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وجدنا مشهداً دولياً مواتياً تماماً لإحياء عملية التسوية، وفقاً لمقررات باريس، مع إمكانية إضافة المطالب الفلسطينية، وفى طليعتها تكوين مجموعة المتابعة الدولية الجادة والحازمة.

نود القول، بصيغة أخرى، إنه لا ينبغي السماح للسياسة الأميركية المتنمرة، أن تقود العالم بأسره إلى استشعار العجز، تجاه تسوية قضية بالغة التأثير في السلم والأمن الدوليين، في منطقة تتقاطع فيها وتتلاقى مصالح مادية وأحانين روحية لكافة شعوب المعمورة. ولا ريب أن اللحظة الدولية مناسبة لمواجهة هكذا تحدٍ، ولا يتعين التفريط فيها.

*كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email