القدس في الوعد الأميركي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قرار الرئيس الأميركي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يمثل درجة عالية من غطرسة القوة، ويشكل منعطفاً خطيراً في أوضاع المنطقة لا يعرف أحد مداه اليوم على وجه اليقين.

فالقرار، الذي يخالف الإجماع والقانون الدوليين، ألغى بجرة قلم المواقف التي اتخذتها، على مدار عقود، إدارات أميركية متعاقبة، جمهورية وديمقراطية. صحيح أن القانون الأميركي منذ عام 1996 ينص على نقل السفارة الأميركية للقدس، إلا أن كل رئيس أميركي، بدءاًُ من كلينتون ومروراً ببوش الابن ووصولاً لأوباما، كان قد استخدم فقرة في القانون نفسه تنص على حق الرئيس في تأجيل التنفيذ.

كل ستة أشهر، لو وجد مثل ذلك التنفيذ مهدداً للأمن القومي الأميركي. بل أكثر من ذلك، فإن قانون نقل السفارة الأميركية من تل أبيب للقدس يعد من القوانين القليلة التي صدرت دون توقيع الرئيس أصلاً. فلأن مشروع القانون كان قد صدر وقتها من كل من مجلسي النواب والشيوخ بأغلبية ساحقة تعني أن كل مجلس يمتلك أغلبية الثلثين اللازمة لإلغاء فيتو الرئيس.

فإن الرئيس وقتها، بيل كلينتون، الذي كان يرفض القانون، فضلا الحفاظ على هيبته، وبدلاً من استخدام الفيتو الذي كان يعلم أن الكونغرس سيلغيه، امتنع عن الفعل طوال مدة الأيام العشرة المتاحة له دستورياً، والتي يصبح المشروع قانوناً بعدها دون توقيعه، وظل يؤجل تنفيذه كل ستة أشهر طوال رئاسته وفعل مثله من خلفوه في المنصب.

لكن ترامب غير بقراره أيضاً الموقف الذي مثلته الدبلوماسية الأميركية رسمياً على الأقل إزاء القدس منذ احتلال عام 1967. فقرار ترامب أضفى الشرعية على احتلال القدس الشرقية وتهويدها وبناء المستوطنات فيها وهي كلها ممارسات لم يعترف بها العالم، شرقه وغربه.

وكانت آخر إدانة دولية له هو قرار مجلس الأمن الدولي 2334 الصادر في ديسمبر 2016. وقد أصدر ترامب قراره رغم التحذيرات العربية والدولية التي تلقتها الإدارة. بل ورغم معارضة وزيري الدفاع والخارجية الأميركيين.

أكثر من ذلك، فقد صدر القرار حتى على عكس ما يراه أغلبية الأميركيين! فوفقاً لاستطلاع للرأي أجرته جامعة ميرلاند وأورده شبلي تلحمي في مقال له، بينما يرى 57% من الأميركيين أن ترامب منحاز لإسرائيل، فإن 59% منهم يريدون أن تتخذ بلادهم موقفاً غير منحاز للإسرائيليين ولا للفلسطينيين. أما فيما يتعلق بالقدس تحديداً، يقول تلحمى إن 63% من الأميركيين، بمن في ذلك 44% من الجمهوريين، أي المنتمين لحزب ترامب، يرفضون نقل السفارة الأميركية للقدس.

والغطرسة التي لم تعر بالاً لمشاعر الملايين من العرب المسلمين والمسيحيين، ولا اعتباراً حتى لقلق الكثير من اليهود الأميركيين مثلت مفارقة جديرة بالتأمل حين اقترنت بمطالبة الإدارة للحكومة الإسرائيلية بأن يكون رد فعلها «محسوباً» أي لا تفرط في الاحتفاء به لئلا يثير ذلك المزيد من ردود الأفعال الغاضبة تجاه الولايات المتحدة.

وحين اقترن أيضاً بتعليمات اضطرت وزارة الخارجية الأميركية لإرسالها لسفاراتها حول العالم، لا فقط في العالم العربي، بتوخي الحيطة والحذر بعد صدور القرار. ومن تابع المحطات الفضائية المختلفة لابد أنه رأى الارتباك والتلعثم اللذين كان يصاب بهما المتحدثون باسم الحكومة الأميركية وهم يكافحون للدفاع عما يستحيل الدفاع عنه.

وبصدور القرار تكون إدارة ترامب قد وضعت عمليا نهاية لمسار التسوية السياسية الذي بدأ بأوسلو لأنها حنثت بالتعهد الذي قطعته على نفسها وقتها وتم على أساسه بناء منطق التسوية أصلاً، أي الامتناع عن اتخاذ موقف من جانب واحد بشأن أي مما صار صار يطلق عليه قضايا الحل النهائي وعلى رأسها قضيتا القدس واللاجئين. وإسرائيل نفسها كان قد تعهدت بالشيء نفسه في اتفاقات أوسلو.

ورغم أن إدارة ترامب تحدثت كثيراً عما وصفته بصفقة القرن، إلا أن جاريد كوشنر، صهر الرئيس ومستشاره للشرق الأوسط رفض قبل أسابيع في لقاء عام بمركز صابان الإفصاح عن أية تفاصيل لتلك الخطة، قائلاً «نحن نعرف ما بالخطة، والفلسطينيون يعرفون ما ناقشناه معهم والإسرائيليون يعرفون ما ناقشناه معهم».

لكن الأخطر من ذلك كله أن ترامب في خطابه الذي أعلن فيه ذلك القرار أورد عبارة بالغة الدلالة مكرراً حين ترك مسألة حل الدولتين مرهونة بموافقة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. فهو قال إن «الولايات المتحدة ستؤيد حل الدولتين إذا ما وافق عليه الطرفان».

بعبارة أخرى، لم يكن خطاب ترامب مجرد إعلان عن اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل وإنما مثل أيضاً تراجعاً عن حل الدولتين كموقف تدفع نحوه الولايات المتحدة وإنما كحل ستقبله لو قبله الطرفان. ولأن حكومة نتنياهو تعارض حل الدولتين فقد مثل القرار إعلان وفاة لفكرة حل الدولتين، التي صارت مستحيلة على أية حال بسبب الاستيطان.

أما تداعيات قرار ترامب على استقرار المنطقة وأمنها، فلا يمكن لأحد التكهن بها اليوم. فالقرار، مثل قرارات أميركية كثيرة، قد لا تتجلى تداعياته الخطيرة إلا بعد شهور وربما سنوات.

 

Email