جيش للصهاينة فقط

ت + ت - الحجم الطبيعي

لكي يتهرب اليافعون اليهود، الذين بلغت أعمارهم الثامنة عشر، من أداء الخدمة العسكرية في إسرائيل، لم يكن يتعين عليهم سوى الالتحاق بالتعليم الديني البحت. ظل هذا التقليد القانوني سارياً منذ نشأة الدولة الصهيونية، إلى أن قررت المحكمة الإسرائيلية العليا في منتصف سبتمبر الماضي، إلغاءه، باعتباره «غير منطقي وغير دستوري، ويتنافى مع المساواة بين المواطنين في تحمل الأعباء». وقد منحت الحكومة الإسرائيلية مهلة عام لتطبيق هذا الحكم.

أمام اليهود الأرثوذوكس والحريديم من المتعصبين الدينيين مدة عام بطوله، يستأنفون خلاله نقاشاتهم ومناظراتهم، التي لم تتقادم أصلاً، حول جدوى إعفائهم من الانخراط في الجيش، بزعم التفرغ لدراسة تعاليم الديانة اليهودية.

وفي هذا السياق، سوف يكرر هؤلاء المتدينون، من أصحاب الشعور المجدولة المتهدلة علي جانبي رؤوسهم إلى الأذقان، الدفع بأنهم ليسوا فقط حراساً للشريعة التوراتية وقوامين عليها، بل إنهم أيضاً وأساساً، يمثلون ضرورة لاستمرار الشعب اليهودي وقيمه، ويخشون من اختلاط الذكور بالإناث والاحتكاك بالعناصر الأقل تديناً أثناء فترة التجنيد.

مؤدي ذلك، أن الخدمة العسكرية عند المتشددين من طلاب المدارس الدينية وفقهاء التوراة، قد تكون مدخلاً لانحراف الشبان والشابات بترك الصلاة وهجران الدروس والمواعظ الدينية. وهم يرمون المحكمة العليا بالانفصال عن المثل اليهودية، وبلغ الغضب ببعضهم حد الإدلاء بآراء «تكفر» بعض أعضائها، والتظاهر المصحوب بالعنف ضدهم، ورفع لافتات كتب عليها «نحن يهود، ولذا لن ننضم للجيش». هل يعني ذلك أن الجيش الإسرائيلي هو في منظورهم جيش للصهاينة، وليس لليهود؟!

هذه ظاهرة تثير العجب والاستهجان، تماماً كما هو الحال عند التأمل في كثير مما يتصل بالمشروع الصهيوني على صعيدي الفكر والفعل. فمبلغ علمنا أنه لا توجد دولة غير إسرائيل في هذا العالم، تعفي قطاعاً من شبان شعبها من أداء خدمة العلم، لمجرد أنهم يسعون إلى الرهبنة في صوامع، أو الانقطاع لعلوم الدين في مدارس أو معاهد دينية.

ويزيد الاستغراب أضعافاً مضاعفة، حين نتصور كيف يحدث هذا في الدولة التي قامت بالسيف، وما زالت تعيش به وعليه، ولا يسعها الاستغناء عن أي كتف يستطيع حمل السلاح، حتي إنها تجند النساء إلى جانب الرجال، ويقال عنها بحق، إنها جيش أنجب دولة، وليس العكس.

رب مجادل بأن هذا كله جائز في كيان له طبيعته الاستعمارية الاستيطانية بالغة الاستثنائية، ومنها أن رواده ومنشئيه الأوائل، كانوا في غالبيتهم من غير المتدينين، المفرطين في علمانيتهم، ومنهم بعض الملحدين، لكنهم وخلفاؤهم من بعدهم، توسلوا بالوعود الدينية المصنوعة، لاستجلاب اليهود إلى «أرض الميعاد».

أكثر من ذلك تجاوزا للمنطق إلى ما يحاكي روايات مسرح العبث واللا معقول، أن تطالب جماعات من هؤلاء المستعمرين بإعفائهم من الحياة العسكرية، بذريعة أنهم يهود أتقياء ومخلصون، بينما ينادون هم أنفسهم بإلحاق أبناء المجتمع العربي الأصيل (فلسطيني 48) بالجيش، إعمالاً لمبدأ المساواة بين مواطني الدولة في أعباء الدفاع عن العلم.

ضمن المقترحات التي يتداولها المعنيون في إسرائيل، بهدف الموائمة بين أهواء المستفيدين من قانون الإعفاء القديم، وبين ضرورة تطبيق القانون الجديد، إنشاء وحدات خاصة بالمتدينين داخل الجيش. غير أن رافضي هذا التوجه أكثر من مؤيديه، وذلك لتعارضه مع قاعدتين أساسيتين في أي تنظيم عسكري، هما وحدة القيادة ووحدة الهدف. فالمتدينون لن يكونوا خاضعين إلا للشريعة والحاخامات، ولن يلتزموا بالتراتب الهرمي في قيادة الجيش. كما أن هدفهم لن يكون الدفاع عن الدولة والشعب، بل عن قداسة الرب، وستنشأ فجوة بين هذه الوحدات الخاصة وبين غيرها، بشكل يربك الجيش والمجتمع على حد سواء.

هذه المخاوف والمحاذير تبدو مبررة تماماً، لا سيما في ضوء تجارب تحريض بعض الحاخامات للجنود على عصيان قادتهم، مثلما حدث عند إخلاء غزة عام 2005.

الشاهد والحال كذلك، أن مواطنين يهوداً، يرون في أنفسهم الورع والاستقامة، ومع ذلك يعزفون عن الانخراط في السلك العسكري لإسرائيل، التي يراد إعلانها دولة «لليهود فقط»، فأين الحكمة والعقلانية في التربص بفلسطينيي 48، المسلمين منهم والمسيحيين، لأجل إقحامهم عنوة في هذا السلك؟!

Email