القمّاشون

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعرف التقميش في اللغة بأنه الجمع من هنا وهناك. فيكون التقميش في الكتابة التفصيل واللصق كما تقول عامة العرب، والكاتب القمّاش لا يخرج عن كونه يعمل عمل النمل، فيما الكاتب المبدع يشتغل شغل النحل، يحط القماش على هذا النص أو ذاك ويبدأ بالعرض ويحشد ما شاء من الفقرات حول الموضوع وينظمها ويسردها إما تباعاً أو كيفما اتفق، ولن تتزود إذا كنت من أهل العلم والمعرفة بأي زادٍ جديد يغني معرفتك من القمّاش.

ولكنك إن كنت ممن يسعى للمعرفة وليس من أهلها فإنك قد تجد ضالتك عنده. غير أنك إذا جعلت من القمّاشين مصدر معرفتك، فإنك لن تعرف حقيقة الفكرة، فإذا ورد هيجل في نص مقمش فهذا لا يعني أنك قد تعرفت على هيجل، بل ويحصل أحياناً بأن القمّاش نفسه على غير دراية بهذا الفيلسوف، الكتابة من حيث أهميتها هي كتابة عن فكرة لمعت في ذهن الكاتب وجعلته يفكر بها، وراح ينقل تفكيره هذا على الورق، وعلى صفحات الكمبيوتر الآن. ويمكن القول أن الكتابة النظرية هي تفكير بالفكرة.

ماذا يعني أن نفكر بالفكرة؟ ها أنا لمعت في ذهني وأنا أتأمل بعض المكتوب في وسائل النشر فكرة التقميش. إذاً الفكرة تولد عبر التأمل في وقائع الحياة، فتكشف عن صفة جوهرية لهذه الواقعة أو لمجموعة من الوقائع، فتجعلها موضوع تفكير وأسئلة. ولكن في البداية تصف الواقعة التي ولدت الفكرة، أي تعرض الفكرة. ها أنا قد وصفت الظاهرة التي هي التقميش لكني لم أسأل بعدُ السؤال الأهم: ما الذي يحمل كاتباً ما على التقميش؟

لماذا يتحول كاتب إلى قمّاش؟

في الجواب عن هذا السؤال أبحث عن الأسباب الممكنة المتعلقة بالقمّاش. فالقماش لا يتوافر على عقل استدلالي منطقي من جهة كما لا يتوافر على قوة عقلية مبدعة ويعوزه الهاجس المعرفي فلا يقيم علاقة جدية بالموضوع كما أنه فقير بالزاد المعرفي.

لهذه الأسباب مجتمعة أو لأحدٍ منها يستسهل القماش الكتابة بالجمع من هنا وهناك، ولديه من أدوات الربط اللغوية ما يكفي لإيهام القارئ بوحدة النص.

والتقميش تعبير عن عقل تقميشي، وطريقة في التفكير، فالتقميش ليس مجرد انعكاس لضعف في الكتابة فقط وإنما هو ثمرة ضعف في الضمير الأخلاقي في كثير من الأحيان.

فالقمّاش أحياناً يقوم بدور السارق دون أن يعلن عن مصدر سرقته، ولحسن الحظ فإن «النت» اليوم مراقب مجاني للسرّاق القماشين. ولكن هناك نوعاً من القماشين الذين يثقلون النص بالمراجع والأسماء الكبيرة ويعتمدون بذلك على إن فيما قدموه جهداً وأمانة علمية.

لكن الفكرة الجديدة التي تلمع في الذهن تستدعي معها كل طاقة التفكير والتوتر الذي لا يكف عن جعلك متيقظاً على نحو تشعر فيه بالغيبة.

ولا يحسبن أحد أن التقميش وقف على كتاب النثر فقط، بل إنك لتجدن من الشعراء من حشد من هذا الشاعر أو ذاك صوره ومعانيه مقلداً لا مبدعاً، أو قد تجد شاعراً يحشد الصور المألوفة العامية ويفصحنها فتنال استحسان العوام. وهذا النوع من التقميش الشعري موجود على نطاق واسع.

ومن أغرب أنواع التقميش وجود ظاهرة القمّاش السياسي، وهذا النوع من القماشين تجده في هروب الشخص في اللحظات الحاسمة من التاريخ التي تستدعي موقفاً واضحاً وصريحاً ومعلناً من الصراع. فتراه يقدم خطاباً يقوم على نوع من الحياد أو مع هذا وذاك.

أو اتخاذ موقف يردفه بـ «ولكن». ولكن هذه هي لكن التحسب والمحطة الاحتياطية للانتقال. والتقميش أياً كان نوعه وصنفه إفقار للحياة وفقر في الحياة.

Email