في انتظار «أكتوبر» الجديد!

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أبعد الفارق بين المشهد العربي في أعقاب نصر أكتوبر المجيد عام 1973، وبين المشهد العربي الآن!

دخلنا حرب أكتوبر وقد توحد الصف بصورة غير مسبوقة. وقف البترول العربي إلى جانب السلاح العربي، لم تبخل دولة عربية بما تحتاجه المعركة منها. كان التنسيق كاملاً بين مصر وسوريا. جاءت قوات وطائرات من العراق والجزائر والمغرب وغيرها لتشارك في الحرب. مولت الإمارات وليبيا صفقات طائرات «ميراج» كانت تحتاجها الجبهة.

وذهب الرئيس الجزائري بومدين إلى موسكو ليدفع مقدماً ثمن سلاح كان يدرك أن المقاتلين سيحتاجونه، عشت أيام أكتوبر في دولة الإمارات، وكأني على الجبهة، قلوب الجميع تعبر مع المقاتلين وتعانق النصر العزيز، وتسترد الأرض المحتلة وتنهي أسطورة جيش العدو الذي زعم أنه لا يهزم!

وخرجنا من حرب أكتوبر، والعالم يتحدث عن العرب كقوة سادسة تضاف للقوى الكبرى في العالم، قوة تملك البشر والموارد والهوية المشتركة والاقتصاد المتنوع والموقع الجغرافي الفريد، وتملك التاريخ الناصع، والحاضر الذي نزهو به، وتنفتح أمامها كل أسباب المستقبل الذي ترجوه.

لكن الأمور لم تمض كما الأمنيات، لم يدرك الكثيرون أن الأعداء لن يقفوا متفرجين، وأن صراعا سيدور بين طموحات العرب وبين مخططات الأعداء الذين أرادوا أن يكون أكتوبر مجرد «استثناء» في تاريخ العرب الحديث، وألا يتحول إلى طريقة نسير فيه - بالجهد والعلم والثقة - لنحقق العبور الأكبر إلى مستقبل نعود فيه صناعاً للحضارة، ونكون فيه بين الأقوى والأفضل والأسعد في هذا العالم.

عادت الصفوف لتتبعثر، وعادت الخلافات لتعصف بالوحدة التي حققت النصر العظيم، ومع نهاية السبعينيات كانت مصر توقع اتفاقيات كامب ديفيد، وكانت أبواب الصراع العربي - العربي تفتح على مصراعيها، بينما كان الخوميني يأخذ إيران إلى حكم الأئمة ويأخذ المنطقة إلى جحيم الصراعات الطائفية، والمسرح يعد لإغراق العالم العربي في كوارث بدأت بغزو الكويت، ولم تنته بتدمير العراق..

بها بدأت فصلاً جديداً هو الأخطر مع اعتماد طريق «الفوضى الخلاقة»، الذي دمر سوريا وليبيا ويعبث بمصير اليمن، والذي اعتمد «الإخوان» حليفاً أراد أن يسلم له مقاليد الأمور في المنطقة لولا ثورة شعب مصر التي أنقذت الدولة العربية الكبرى من براثن جماعة الشر.

والآن.. وكل الشواهد تقود إلى نهاية قريبة للدولة المزعومة التي أقامتها داعش «أو أقيمت لها!» في سوريا والعراق، فإن الخطأ الأكبر أن نتصور أن الخطر سينتهي، وأن الرهان على نشر الفوضى والدمار في العالم العربي سيتوقف.

العكس صحيح، والقادم أخطر. ولعل الحديث الآن عن استعادة روح أكتوبر لا يبدو تكرارا مملا لأمنيات لا تتحقق فليس أمامنا في وجه الخطر إلا تجميع قوانا الحية لكي نتجاوز أسوأ فترات تاريخنا الحديث!

الآن.. يقال علناً إن العراق الذي كنا نعرفه لن يعود، وأن سوريا يتم تقطيع أوصالها لتوزع على الغانمين. وأن ليبيا ستعود ولايات مستقلة لإرضاء كل الطامعين في ثروتها البترولية، وأن الدور قادم على الآخرين!

والآن.. يعود المشهد فيذكرنا بمنتصف القرن الماضي، ومع سنوات اليقظة العربية حين كان المخطط يعتمد على حصار العالم العربي بقوس من القوى الإقليمية المعادية يمتد من طهران إلى أنقرة إلى تل أبيب إلى أديس أبابا! هل صدفة أن تعود هذه القوى لتتوافق على حساب الدول العربية، وأن تجد من الدول العربية من يبارك توافقها، ومن يغض الطرف عن مد نفوذها في الأرض العربية،.

ومن يبني سياسته بدعم جهود هذه القوى الإقليمية لإشعال المزيد من الصراعات المذهبية والطائفية والعرقية في العالم العربي.. انتظارا لخريطة جديدة وتقسيم جديد ينفذ ما نجح العرب في منعه، في منتصف القرن الماضي عندما خاضوا المعركة ضد الأحلاف، وما نجحوا في منعه بعد ذلك حين انتصروا في أكتوبر المجيد، ثم مرة أخرى حين استعادوا مصر من قبضة الإخوان المدعومة من كل قوى الشر.

من هنا يكاد الواقع العربي يصرخ في وجوهنا بأننا في حاجة إلى أكتوبر جديد، بمعنى الحاجة إلى «حائط صد» في وجه هذه الهجمة الشرسة. وليس أمامنا إلا البناء على تحالف الدول العربية الأربع ضد الإرهاب «مصر والإمارات والسعودية والبحرين» بما تملك من وضوح الرؤية، ومن تقدير سليم للأفكار التي تتعرض لها ومن ثقة كل خطوة تخطوها في الحرب ضد العملاء ودعاة التقسيم وتجار الدين.

تقربها من النصر على مخططات الأعداء الذين يستهدفون عالما عربيا يتحول إلى شظايا حتى يكبر فيه الأقزام أو تسيطر قوى الشر لتغتال كل ما هو جميل في وطننا العربي من محيطه إلى خليجه الذي سيظل دائما يعتز بعروبته ويؤكد وحدته.

ما أبعد الفارق بين المشهد في أعقاب نصر أكتوبر منذ أربعة وأربعين عاما، والمشهد الآن في عالمنا العربي، لكننا قادرون على العبور مرة أخرى وهزيمة مخططات الأعداء نعرفهم والعملاء مكشوفون، وشعوبنا قادرة على انتزاع أكثر من أكتوبر رغم كل التحديات.

 

Email