استفتاء كردستان وأزمة النظام السياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يفاجئ المتابعين للشأن السياسي العراقي قيام إقليم كردستان بالاستفتاء بشأن الاستقلال، لأن ذلك مآلا طبيعيا للسياسات الفاشلة لبناء هوية عراقية في دولة مركزية أو فيدرالية التي اتبعتها الحكومات العراقية المتعاقبة طيلة القرن الماضي والتي استكملتها بشكل فعال حكومات ما بعد التغيير في السياقات التي بنيت عليها العملية السياسية التي كرست توسيع الفجوات بين مكونات المجتمع العراقي في دستور أصدق ما يمكن القول عنه،إنه وثيقة لتقسيم العراق وليس لتوحيده كتب في ظروف استثنائية استقوى فيها الصقور على إرادة المواطن الذي التبست عليه معظم ما تعنيه المفردات المتداولة في الساحة السياسية.

لم تصل الخلافات بين بغداد وأربيل إلى هذا المستوى من السوء والتردي حتى في أحلك أوقات احتدام الحروب التي شنت على الكرد، بغداد تتحدث عن وحدة العراق وأربيل تتحدث عن انفصال الإقليم وبين هذا الطرح وذاك هوة هائلة قد تبتلع من جديد المزيد من ثروات الطرفين وأرواح شبابهم.

الكرد لم يجدوا ما يغريهم بالبقاء ضمن العراق فهم يرون بأن مشروعهم منفتح على الحداثة في شؤون الحياة بخلاف المشاريع السياسية للقوى الأخرى في العراق التي تكتلت على هيئة مكونات طائفية شيعية وسنية منغلقة على الماضي محافظة على ما يسمى «ثوابت الأمة».

صحيح أن الكرد حصلوا بعد عام 2003 على الكثير من الامتيازات شرعت في الدستور إلا أن السلطة والقرار النهائي فيما يتعلق بالقضايا المصيرية احتكره التحالف الوطني فقط وتوصلوا إلى أنه رغم ما تحقق في ضوء التنسيق والتوافق مع التحالف الوطني الذي أعادوا فيه بناء الدولة العراقية على أسس المحاصصة العرقية والطائفية أن العقلية الفوقية لا تزال هي التي تتحكم بالعلاقة مع هذا التحالف الذي سرعان ما لجأ البعض من فصائله إلى بعث رسائل التهديد والمحق والاحتلال على غرار ما اعتاد الكرد سماعه من الأنظمة السابقة.

الضغوطات على الإقليم تجاوزت العقوبات التي فرضتها بغداد، فمع أن الخيار العسكري مستبعد في المرحلة الحالية على الأقل إلا أن المناورات العسكرية المشتركة بين العراق وإيران على بعد بضعة مئات من الأمتار عن حدود الإقليم لا تتفق مع سياقات الدعوة للدخول في حوار فهي تعقد الأزمة ولا تسهل حلها. الحوار بين بغداد وأربيل هو الخيار الذي لا بديل عنه وإن كان توقيته وأجواء انعقاده يخضع لبعض المعايير السياسية المختلف عليها.

البارزاني لم يختار الدخول في حوار قبل الاستفتاء وإنما بعده ليكون بموقف أقوى، إلا أن الظروف التي تمخضت عن إجرائه والموقف الدولي الرافض له ولنتائجه وضع الكثير من الشكوك حول ما إذا كان موفقا في خياره، فهو الآن ليس في موقف أقوى من السابق إذ لم يعد الاستفتاء ورقة تفاوض رابحة بيده بل أصبح وسيلة لتفجير جميع الأزمات المسكوت عنها بين بغداد وأربيل على مدى السنوات التي أعقبت التغيير في العراق.

فالعلاقات الملتبسة بين ما هو إقليمي وما هو اتحادي أصبحت على طاولة المحادثات، فالتداخل في المواقف السيادية بين الدولة والإقليم فيما يتعلق بالمطارات والمعابر الحدودية وما يتعلق بصلاحيات عقد الاتفاقيات مع جهات خارجية أو فتح قنصليات في الخارج وغير ذلك الكثير.

والحقيقة أن العقوبات التي فرضتها بغداد على الإقليم لن تكون مجدية فهي من الناحية السياسية أقل شأنا بكثير من الضغوطات التي وضعت على الإقليم لإلغاء الاستفتاء أو تأجيله، إلا أنها من جانب آخر كشفت عن النوايا في إعادة النظر بكل ما سبق التوافق عليه في مسعى لتقليص سلطات الإقليم لصالح الدولة الاتحادية في ظروف الضعف التي يمر بها الإقليم الذي خسر العديد من المتعاطفين مع قضيته محليا وإقليميا ودوليا.

المبادرات عديدة لإطفاء لهيب الأزمة والدخول في حوار ولكن الشروط التي يضعها كل طرف تؤخر بدأها، ففي الوقت الذي تصر فيه بغداد على إلغاء الاستفتاء والإذعان لقرار المحكمة الاتحادية التي حكمت ببطلانه كشرط للدخول في الحوار يرفض الإقليم ذلك ويطرح بديلا وهو التجميد لمدة سنتين، حالة الجمود قد تستغرق بعض الوقت وقد تقود لعبة لي الأذرع هذه إلى المزيد من التردي في العلاقات بين بغداد وأربيل.

الحوار المقبل، إن جرى، سيكون مفصليا وشاقا وطويل الأمد وينبغي ألا يكون بين التحالف الكردستاني والتحالف الوطني كما كان قبل الاستفتاء، فالأزمة التي ترتبت على إجرائه قد أضفت بظلالها الكئيبة على العراق كله.

وإذا كان لهذا البلد أن يبقى موحدا فينبغي إعادة النظر بأسس الشراكة الوطنية وإعادة كتابة الدستور لتلافي الأخطاء الخطيرة التي ارتكبت على مدى الأربعة عشر عاما في أطر العملية السياسية التي استندت إلى تلبية مصالح التحالفات وأوصلت العراق إلى ما وصل إليه، فالحوار لغير إصلاح النظام السياسي ضرب من العبث.

 

 

Email