سراب التخطيط!

ت + ت - الحجم الطبيعي

سعدت وأنا أشاهد أمس الاجتماع السنوي لحكومة دولة الإمارات للتفرغ لمتابعة خطط المستقبل. وذكرتني هذه الحادثة بعالم الرياضيات الإنجليزي تشارلز دودغسون الذي لم يكن على ما يبدو يعلم أن روايته «أليس في بلاد العجائب» التي كتبها في نهاية القرن الـ18 باسم مستعار خشية تندر الناس عليه، قد شخصت حالة الناس والتخطيط لعقود متتالية.

وذلك حينما ذكر قصة "أليس" الخيالية التي سقطت في جحر أرنب فتاهت به إلى بلاد العجائب! حيث سألت قطة رأتها مصادفة: أي طريق يمكنني أن أسلك؟ فقالت القطة: هذا الأمر يعتمد على وجهتك المقصودة. فقالت "أليس": لا أعلم. فردت القطة: إذاً، لا يهم أي طريق ستسلكينه!

هذه القصة تصور لنا حال الكثير من الشعوب ممن يدخل عليهم العام الجديد وهم لا يعلمون إلى أي وجهة هم ذاهبون. مثل من يستقل سيارته فيجوب بها الطرقات، ثم ينتهي به النهار وهو لم يبلغ وجهته لأنه لم يحدد هدفه أو مقصده، ناهيك إن كان يدير وزارة أو بلداً بأسره.

التخطيط المؤسسي الذي لا نكترث به هو الذي يدفع العرب للهروب الجماعي صيفاً إلى مرابع أميركا وأوروبا إشباعاً لانبهارهم بتقدم الغرب. البلدان الغربية التي ننفق مدخراتنا فيها في الإجازات خططت لما يناسب تطلعاتها ومواردها فنجحت على شتى الصعد بعد أن نهضت من ركام الحروب. لسبب بسيط وهو أن التقدم لا يأتي مصادفة بل بقوة دافعة من التخطيط.

قبل أيام كنت أكتب دراسة علمية عميقة عن القيادة في منطقة الخليج ولما بلغت فقرة الاستشهاد بالتقارير الدولية مثل: التنافسية العالمي، ومؤشر مدركات الفساد CPI، ومؤشر التنمية البشرية HDI وغيرها، وجدت أن الإمارات تتقدمنا. هذه ثمرة التخطيط على المدى القصير فقط.

وأرى أنها إذا استمرت بهذه المنهجية الجادة، ورؤية المئوية، فإنها ستحقق مفاجآت على عدة صعد. أقول هذا ليس من انطباعات متسرعة بل من متابعة وقراءة متأنية لتلك الخطة ومما يطلعني عليه كبار القياديين في الدولة، بعضها لم ينشر.

التخطيط الاستراتيجي ليس كلاماً إنشائياً، كما يظن البعض، بل له قواعد وأصول وخطوات واضحة وأهداف ذكية قابلة للتطبيق والقياس درسناها جميعاً في الجامعات. وما يجعلني متفائلاً بمستقبل الإمارات أنها تخطط بحسب أفضل تلك المعايير والتطبيقات العالمية التي شاهدنا ثمارها في كبريات الشركات والبلدان.

وقد تعلمت من خبرتي في عضويات مجالس الإدارات بشركات خليجية، أن خطة العمل يفترض ألا تكون مرتبطة بالقائد أو المدير العام، بل بخطوات عملية يمكن تطبيقها من قبل أي قيادي مناسب يأتي بعده. هنا يكون مجلس الإدارة أو الوزارة أو رئيس الوزراء قد أدى أمانة العمل المؤسسي المستدام. وهي خدمة جليلة نقدمها لجيلنا وللأجيال القادمة التي حينما تأتي إلى واحات المنطقة لا تجد سراباً بل ذؤابة المجد التي غرسها الآباء والأجداد.

همسة في أذن كل قائد عربي: بعد رحيلك، لن يعلق في أذهاننا سوى رؤيتك الثاقبة التي ترجمتها على أرض الواقع بتخطيط جلبت له أمهر المتخصصين من شتى بقاع الأرض لترفع اسم بلادنا عالياً خفاقاً بين الأمم.

 

 

Email