البيوت حجارة تحكي

المكان حجارة تسمع وتحكي. الإنسان مجموعة أمكنة. حيث تسكن يسترك البيت، وأنت تتولاه بالنظافة والرعاية. تهتم بصحته كما صحتك. تغضب إن علاه الغبار، وتحزن إن هُدّت منه طوبة الريح. تريده جميلاً كما ابنك أو ابنتك.

صورته من صورتك، وجدرانه لوحات يكتب عليها الزمن قصة من قصص حياتك. أما أشجاره فهي التي تتفيأ ظلها وتأكل من ثمرها وتعطر أنفاس روحك بوردها. البيت وطن مصغّر، أو قل حصتك من الوطن. أعود إلى نفسي فأجدني مجموعة أماكن.

بيت حيث ولدت، بيت حيث تربيت، بيت حيث درست، بيت حيث عملت، وبيت حيث أنا الآن. في كل بيت حكاية. ولكل حياة نكهة. توزعت حكاياتي، أقصد بيوتي، بين يافا الأم، ونابلس وعمان ودمشق والكويت والإمارات والبحرين. يستقبلك البيت فاتحاً ذراعيه، يحضنك بابتسامة اللون، حاجة الفراغ للإنسان، وتوق الحجر للبشر. تملأه حياة فيملؤك حباً وستراً وأماناً.

وحين ترحل، يبكيك. يتعرى مجدداً، لا أثاث ولا ستائر ولا أنفاس. يصمت، يخبئ أسرارك بين ضلوعه. وحين تغلق الباب لآخر مرة تترك سنوات من عمرك، تأتمنه عليها وتتمنى له ساكناً جديداً حنوناً يحييه مجدداً.

البيوت أيضاً تهرم وتموت، ليس الكائنات الحية فقط. لكن الإنسان هو الذي يحييها، وهو الذي يميتها. الحياة بإعمارها والموت بهجرها. اعترفت ذات مرة أنى كدت أقتل بيتاً لي. هجرته سنوات بدون روح، لم أسكنه ولم أدع أحداً يسكنه. كل ما فعلته أنى دفنت فيه ذكريات جميلة لأيام صعبة. كانت أرضاً خالية من الحياة. لكن الأشجار التي زرعت حواليه أحيتها. زيتون وتين وعنب وخوخ ورمان وتوت وكرز وتفاح وعنّاب.

بين كل شجرة وشجرة ثلاثة أمتار، وعلى الحواف سور من الورد. بقيت وفياً للشجر وللبيت. رعاها في غيابي جاري عاشق الأرض والزرع، الفلاح الذي ظلمناه كغيره من فلاحينا، فسعى إلى رزقه من خلال دكان صغيرة، تكاد بضاعتها لا تتجاوز الخمسمئة دينار، ومن خلال ما يزرع ويأكل من الأرض، أرض البيت.

وأمام الدكان، يلتقي أهل الحي مساءً يتسامرون ويحكون قصص زمان، يتسامرون ويشكون لبعضهم صعوبة الحياة في هذا الزمن. لكني، أعترف أنني لم أكن وفياً للبيت الجبلي، وبقدر إخلاصي للشجر، كنت طيلة سنين جاحداً بحق الحجر. لم أكن أعلم أن الحجر أيضاً يهرم ما لم تمسسه يد بشر، لكأنه يحس ويتنفس.

قررت أن أعتذر له، أن أمسح عنه غبار الأيام وأعيده أبيض كما في عز شبابه. جدران البيت العتيق كانت شاحبة، عليها تجاعيد سنين الوحدة وخربشات أولاد صغار كبروا، البيت أيضاً كالبشر يفتك به الوجد ويقتله صقيع الغياب.

على مدخل البيت استقبلتنا على اليسار ياسمينة تتدلى على رأس الباب، كخصلة شعر على كتف صبية، وعلى اليمين زيتونة من عشر زيتونات عمرها ثلاثين سنة، نقتسم أنا وجاري محصولها وبطعمها وبلذة أن تأكل من ما تزرع في أرضك، لا من ما تشتريه من السوق. في الداخل ثمار مما لذّ وطاب، وزقزقة عصافير وخرير ماء بحرة شامية، أصلها ظل عالقاً في ذاكرتي منذ كنت أدرس في الشام.

السروة التي نبتت وحدها شقت جذورها الصخر، صارت أطول من البيت، تحبها العصافير لكأنها أمها، تضع في حضنها بيضها، وعلى أوراقها تكتب الأغاني المخضرّة. السروة لا تثمر فقط تحب وتبقى وفية.

الليمونة التي كانت حباتها تذبل وتموت صغيرة، قام جاري بتركيبها، هل يعرف جيل اليوم ماذا يعني أن تركّب شجرة ؟!، أن تجري لها عملية جراحية بفتح جرح في جذعها أو أحد أغصانها، وتزرع فيه عوداً من شجرة أخرى، وتلف عليها قماشاً أو قطعة خيش، فيكبر العود ويصبح أكبر من باقي الأغصان ليثمر كما أمه؟!، ليتنا نعود إلى أمنا الأرض، نرويها ونزرعها فتمنحنا الحياة. ليتنا نمنح الحياة للبيوت، لنظل نشم رائحة الذكرى.

ليتنا نصفّي نوايانا وننقّيها من شوائب الأنانية والنفاق. فالغايات الخبيثة غابات موحشة، شجر يأكل شجراً، نار تحرق ناراً. ما أوحش الإنسان حين يصبح غابة! تذكرت البيت وأنا أصغي لفيروز تغني من كلمات الأخوين الرحباني، ملائكة الزمن الجميل:

بيتي أنا بيتك وما الي حدا

                       من كتر ما ناديتك وسع المدى

نطرتك ع بابي وع كل البواب

                       كتبتلك عذابي ع شمس الغياب

وأتذكر أولئك الذين هُجّروا وشُرّدوا من بيوتهم في فلسطين وسوريا والعراق. كم يتشظى المهاجر، وكم قطعة يتمزق، بل أي قوة تستطيع أن تعيده إليه!!

*كاتب أردني

الأكثر مشاركة