الحلول الوسط.. الخيار الثالث

ت + ت - الحجم الطبيعي

حينما تدهور أداء الشركات إبان الأزمة المالية العالمية عام 2008 بصورة غير مسبوقة، أسقط في يد مدير عام إحدى الشركات، حينما علم أن مجلس الإدارة مُصِرٌ على تسريح معظم العاملين من أصل سبعة آلاف موظف، وذلك بعد أنباء وردت عن إلغاء الشركات نحو 30 في المئة من عقودها مع هذه الشركة، الأمر الذي يهدد استمراريتها في ظل مصاريفها المتضخمة.

وجاء توجه المجلس، في مسعى منه لتقليل بند المصاريف بمبلغ عشرة ملايين دولار. فرفض المدير ذلك رفضاً قاطعاً. وبعد نقاش محتدم، وشد وجذب، نجح معهم في التوصل إلى «حل وسط» مرضٍ، وهو أنه يتعين على موظفي الشركة، أصغرهم إلى أكبرهم، تقديم إجازة تمتد إلى أربعة أسابيع من دون راتب، وقتما شاؤوا، حتى وإن كانت أياماً متفرقة.

وما كان لافتاً، ليس هذا الحل الوسط فحسب، بل الطريقة التي أعلن فيها هذا القائد الذكي القرار، عندما قال أمام حشد من الموظفين: «من الأفضل أن نعاني جميعاً قليلاً، خير لنا من أن يعاني أحدنا كثيراً». علينا أن نواجه مجتمعين هذه المشكلة العارضة، بدلاً من أن يواجهها بعضنا منفرداً.

حينما شعر الموظفون أن لهم قيمة، بادر بعضهم ممن يمتلك أموالاً تكفيه لخمسة أو ستة أسابيع بتقديم إجازة أطول من غيرهم. وعليه، نجحت الشركة في توفير عشرين مليون دولار، أي ضعف المبلغ المستهدف لعبور الأزمة، من دون فصل أي موظف.

هذه القصة الرمزية التي أرسلها إلىّ أحد القرّاء، وهي حقيقية على ما يبدو، تذكرنا بالفعل أن هناك فارقاً كبيراً بين المدير الغارق في يومياته وأرقامه، والقائد الفذ الذي يستشرف المستقبل، وينقب عن الحلول الإبداعية، ولا يعلق المشكلة على شماعة أبرياء.

هذه القصة ذكرتني أيضاً بالخلاف الذي نشب بين أشراف العرب، فمن يظفر بشرف حمل الحجر الأسود إلى الكعبة المشرفة. فاقترح النبي صلى الله عليه وسلم ببساطة أن يحمله الجميع بوضعه وسط ثوب فرشه لهم، ليحملوا الثوب معاً من أطرافه إلى الكعبة، ليضع الحجر بيده الشريفة في موضعه. فحل مشكلة بحل وسط ولم يغضب أحداً.

والحلول الوسط مبدأ أصيل في أدبيات المفاوضات، ويسميه العامة في لغة «البزنس» بالإنجليزية win-win، أي أن كلا الطرفين يمكن أن يظفر بحل معقول يرضيه مع شيء من التنازل. ويستخدم المبدأ نفسه كثيراً في عالم السياسة لتحرير رهائن أو لرفع عقوبات أو الخروج من عنق الزجاجة. ولذا، فإن ذلك يسبقه فترة من التمهيد للرأي العام، ليقبل أو يتوقع الحل الوسط الذي لم يكن مطروحاً من قبل.

هذا كله يدل على أن المشكلات حينما تعترضنا لا تستلزم بالضرورة أن تدفع فئة بعينها الثمن على حساب أخرى. فهناك حلول وسطية وحكيمة، تتطلب مزيداً من البحث وآذاناً مصغية لا تنحاز إلى رأيها فقط. فقد يحل المشكلة أصغر موظف، وليس بالضرورة أطراف استشارية خارجية أو «عبقرية».

والحكمة تقتضي أنه حينما تبدأ سفينة مثقوبة بالغرق التدريجي لا نلقي بالناس تباعاً في عرض البحر، بل نتخلص أولاً من متاعهم الثقيل بعدها نؤمن لهم أطواق النجاة.

الحلول في الحياة ليست أبيض أو أسود، فهناك ألوان أخرى. ومن الحلول أن نخلط لونين أو أكثر، لنصل إلى اللون الأجمل، أو الحل الأنسب. وإذا كان كل من الطرفين متمسكاً بوجهة نظره، فلنتذكر أن هناك خياراً ثالثاً، وهو «حل وسط» لنمضي في هذه الحياة.

 

Email