زمن الرايخ الاستيطاني في فلسطين

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل بضعة أيام رعى بنيامين نتنياهو احتفالية إسرائيلية بمناسبة ذكرى احتلال الضفة الفلسطينية بما فيها القدس، وبداية الاستيطان الصهيوني اليهودي في هذه المناطق قبل خمسين عاماً.

وإيغالاً في التبجح والعنجهية، استغل رئيس وزراء إسرائيل أجواء النشوة لدى محازبيه وزعماء الاستيطان من حوله، ليصرح بأن بلاده لا تنوي التخلي عن المستوطنات «.. لقد جئنا إلى هنا لنبقى إلى الأبد..».

فكرة الأبد والأبدية كثيرة التداول في الخطاب الأيديولوجي والسياسي الصهيوني. فلطالما ردد القادة الصهاينة والإسرائيليون أن دولتهم كانت منذ الأزل وستبقى للأبد؛ والقدس هي العاصمة الأبدية الموحدة لليهود، وهو ما كرره نتنياهو بالنسبة للاستيطان والمستوطنات. وهنا تلح الإشارة إلى أن النازيين قد فعلوها من قبل، حين قالوا بأن الرايخ الثالث سيعمر ألف سنة على الأقل.

تقديرنا أن نتنياهو بحديثه المستفز تعمد توجيه رسالة إلى أكثر من عنوان، لكنه يخص بها جهتين أكثر من غيرهما. الجهة الأولى، هي قاعدته الأيديولوجية والسياسية الانتخابية وفي طليعتها قطعان المستوطنين وتنظيماتهم؛ والقوى الدينية الموصوفة بالتشدد (الحريديم). ويشكل هؤلاء وهؤلاء معاً زهاء ربع السكان اليهود في إسرائيل. ويتعزز إدراكنا لهذه المغازلة إذا تذكرنا أن الرجل قال قبيل أيام من هذه الاحتفالية «.. إننا نعمل بقوة لصالح الاستيطان، ولا توجد حكومة عملت أكثر مما فعلنا في هذا الاتجاه..».

الجهة الثانية، هي أنصار عملية السلام والتسوية وحل الدولتين في مختلف أنحاء المعمورة. نتنياهو يريد إبلاغ الجميع بأن ما حققه التوسع الاستيطاني، يقع في ملته واعتقاده خارج النطاق الجغرافي والسياسي والسيادي للفلسطينيين، حتى إنْ قدر للدولة الفلسطينية أن تقوم. هو بكلام آخر، يقطع شعرة عملية التسوية مع الفلسطينيين والعرب والعجم فيما يخص مستقبل الاستيطان، ولا سيما أن هذا البعد يتصل وثيقاً بمصير القدس. ولأن الطرف الفلسطيني يصر على عدم استئناف عملية التسوية قبل تجميد الاستيطان، فلا معنى لهذا التصريح غير أن نتنياهو يؤكد مغادرته لهذه العملية غير آبه بأي تبعات. ويوحي بهذه الملاحظة أيضاً أن احتفالية الاستيطان وما تخللها من أقوال وإشارات، جرت فيما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس، يقوم بأول جولاته المكوكية المحدودة بين الأطراف المتصارعة في فلسطين التاريخية، بحثاً عن تحقيق انفراجة تفاوضية.

لا يشعر الإسرائيليون بالذنب الذي يقترفونه بسرقة أرض شعب معترف له بحق تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على هذه الأرض. والأنكى أنهم يحتفون بهذه الفعلة المنحطة على أعين الناس ويصرون على ديمومتها، رغماً عن مخالفتها الموثقة لكل القوانين المتعلقة بتنظيم العلاقات الدولية لزمني السلم والحرب. وبالنظر لهذا التواقح المفرط، علينا أن نصدق نتنياهو عندما يزعم أنه لن يخلي المستوطنات ولن يتخلى عن الاستيطان. ويشفع لهذه الصدقية قبل ذلك وبعده، أن جناية الاستيطان في عهده وفي عهود أسلافه خلال السنوات الخمسين الماضية، لم تخضع لأي إجراءات عقابية رادعة. ومن المعلوم أن من أمن العقاب أساء الأدب وداوم على هذه الإساءة

في كل حال، لا علاقة مباشرة بين قضية التوسع الاستيطاني وبين الأمن الإسرائيلي كما يدعي الإسرائيليون. فالاختراقات الأمنية يمكن أن تطال المستوطنين، القدامى منهم والجدد داخل ما يسمى بالخط الأخضر وخارجه على حد سواء. ولا علاقة مباشرة أيضاً بين الاستيطان والوعود الدينية التوراتية، لأن اليقين بهذه العلاقة لا يتطرق إلى كل اليهود ولا حتى إلى كل الإسرائيليين. الشراهة الاستيطانية ترتبط وثيقاً بطموحات التمدد الجغرافي في فلسطين التاريخية والحيلولة ما أمكن دون تبلور كينونة الدولة الفلسطينية. كما أنها تتصل بمصالح اقتصادية قوية لقطاعات من «المجتمع الإسرائيلي». فالمستوطنات باتت، مثلاً، متنفساً للباحثين عن المسكن زهيد الثمن؛ الذي تتوفر فيه كل مظاهر الرفاه. وهي عند فئات من المستوطنين مجرد منتجعات سياحية لقضاء الإجازات وعطلات نهاية الأسبوع، وذلك بخمس تكلفة شقق الداخل الإسرائيلي وفنادقه.

هذا دون الحديث عن الشركات الإسرائيلية التي راحت تنقل أعمالها إلى المستوطنات، طمعاً في المزايا الضريبية والدعم الحكومي و«العمالة الفلسطينية الرخيصة» وإمكانية التخلص من النفايات ودفنها بعيداً عن احتجاجات «مجتمع الأسياد» في إسرائيل.

لم يمر سوى وقت قصير على حديث النازيين عن رايخهم الأبدي، حتى كانوا بدولتهم ورايخهم قد ذهبوا أدراج رياح التاريخ، والظاهر أن نتنياهو وأركان «رايخه» الاستيطاني في فلسطين لا علم لهم بهذه الحقيقة.

*كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email